لكن العهد الملكي أدرك ضرورة تشريع قانون مدني، مراعاة «لزمن الضرورة»، وكانت البداية العام (1933)، فوضعت لائحة للمشروع، لكنها تعثرت، ثم لحقها بمحاولة أخرى عام (1945)، فحينها «أصدرت وزارة العدل أمراً بتشكيل لجنة مِن أربعة أعضاء عهدت إليها وضع لائحة قانون الأحوال الشخصية» (خروفة، شرح قانون الأحوال الشَّخصية).
لم يصدر القانون، لأنه بحاجة إلى تعديل مادة دستورية، وأمرها ليس صعباً، ممانعة رجال الدين كانت سبباً، يتضح ذلك من رسالة محسن الحكيم (ت 1970) إلى حكومة «البعث» الأولى يطالبها بإلغاء ما أصدرته حكومة عبد الكريم قاسم: «وأُضيف هنا أن حكومة العهد الملكي سبق أن شرعت قانوناً للأحوال الشخصية خالفت فيه الشرع الإسلامي، وعرضته على مجلس النواب، فأرسلتُ أحد أولادي للاتصال بالنواب وإبلاغهم استنكاري» (بحر العلوم، أضواء على قانون الأحوال الشخصية).
من هنا نتفهم الثأر الذي تحرك به نجل المرجع الحكيم من قَبل، ومجلسه الأعلى من بعد، وتوافق وجود إخواني رئيساً للبرلمان، فالحكم حكمهم، ولا يهم لديهم تشريع زواج القاصرات، وإخضاع المرأة بقوة القانون. لم يوقفوا اعتراضهم على مادة المساواة بالإرث، فهذه قد حُذفت بُعيد انقلاب «البعث» (1963)، وإنما لا يرضيهم أن تكون الدولة والقضاء المدني -مع الأخذ بالمناسب من الفقه- مرجع معاملات الأحوال الشخصية، لأن في ذلك تقليلاً من سطوة رجل الدين.
أقول: إذا كانوا حريصين على الشريعة، ولم يدركوا تبدل الأزمان، فنظام الرق، وعقوبة السرقة، والجزية وغيرها كلها مثبتة في الشريعة وبأحكام واضحة، فكيف تجاوزوا تلك الأحكام؟! بينما لم يتجاوزوا سن زواج القاصرات، أو المساواة بالإرث؟! الجواب أن قضية المرأة مركزية وجوهرية بالنسبة للإسلاميين، فمعاملتها وفق رؤيتهم تعني مظهراً من مظاهر خضوع المجتمع لأدواتهم، والحفاظ على ولاء العشائر، يقدمون أنفسهم حُراساً للشريعة، وحسب معروف الرصافي (ت 1945): «بوليس السماء»!
ما بين «داعش» ومعاندي زمن الضرورة خيط رفيع، فتلك أعلنت الخلافة ونفذت قانونها الإلهي بطريقتها، وهؤلاء يعلنون نظام خلافتهم بطريقتهم أيضاً، فما زالت الديمقراطية لصالحهم، وحصد الأصوات باسم الدين، فلهم هدم المدنية بالتدريج. نراهم لا يتأخرون عن إصدار فتاوى القتل بحق آلاف العراقيين لخلاف حزبي وسياسي، مثلما حصل في يوليو 1963، بينما يستميتون لإلغاء قانون الأحوال الشخصية.
لصالح كاشف الغطاء الجعفري (ت 1979): «رأيت فيما يرى النَّا/ ئمون ألطف قصة/ إن العراق عروس/ والبرلمان منصة/ وأننا قد أخذنا/ مِن التَّمدن حصة/ حتى انتبهتُ فكانت/ أَحلامي اليوم غصة» (الخاقاني، شعراء الغري). نعم، رئيس البرلمان الإخواني ونائبه زعيم المجلس الإسلامي يصفيان البقية الباقية من التمدن، ومن على منصة برلمان العراق «الجديد».
هل هذا هو مجلسكم وهذه ثورتكم وتياركم الإصلاحي! ذلك إذا علمنا أن «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، قد حقق ثورته بإعدام قانون الأحوال الشخصية، فاختزل اسمه إلى «المجلس الإسلامي الأعلى»! أما الجبوري فتخلى عن الحزب الإسلامي ليشكل «التجمع المدني للإصلاح»! ولا أرى غير «داعش» تترأس البرلمان.
--------
الاتحاد