نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص


رحلة العودة الى حضن الوطن




رافقت المَعْيرةُ الثورةَ السورية منذ لحظاتها الأولى، وقد تبدّت في أشكال عدة؛ دينية، وفكرية، واجتماعية، وسياسية. غير أن أبرز المعايير كان المعيار الاجتماعي، حيث بقي الأكثر حضوراً، وقد اتسم هذا المعيار بسرعة تقلبه، وخضوعه للانفعال، وسرعة استجابته للمزاج العام، مما فرض على المتابعين تجنّبه بصفته تياراً خطيراً، أو السير في موكبه لانسجامه مع أحلام الأفراد، أمَّا من حاول أن يكون ذا رأي هادئ، أو تحليلي فكانت الحصيلة تشكيكاً وتخويناً ونبشاً في ماضيه، ضمن رؤية للشخصية الإنسانية بصفتها مادة مكلَّسة لاتعرف للتغيير طريقاً،


 وقد اعتادت على الحياد و(الرمادية) حتى في أعتى اللحظات، أفاد كثيرون من هذا المنهج، بما أن الانتماء للثورة مثل الانتماء لعقيدة (يجبُّ ماقبله) فتسلق عديدون بحثوا عن عربة في مركبتها، قبل أن تمتلئ مقاعد القطار، لكنهم لم يترددوا في العودة إلى (حضن الوطن) حين وجدوا أن الأمر له علاقة بالمعاناة أكثر مما له علاقة بالاستثمار ومحو أخطاء التاريخ، وفي الوقت نفسه كانت الفرصة سانحة أمام المزاودين والمنتفعين ليلتفوا حول قيادتهم التاريخية، بما أن المستهدف هو الوطن وليس شريحة منه. ويشكل الحُكم الاجتماعي عبر التاريخ ميزاناً صارماً لما يقوم به الأفراد والمجتمعات، مستمداً شرعيَّته من أثره في الناس، وانطلاقه منهم في الوقت نفسه، وتعدّ المجتمعات الشرقية حاضنة خصبة للحكم الاجتماعي، نظراً لإعلاء قيمة المجتمع، وتهميش خصوصية الفرد.

كانت القطيعة مع الماضي، المعلنة، الموثقة، بما تثيره من زحف انفعالي اجتماعي هي أبرز استجابة للتغيير من كثيرين لهم تاريخ حافل بالخراب، عملٌ بطولي بامتياز يُشار إليه بالبنان، أما المنتقدون والمعارضون له، الذين يدلون بأصواتهم بخفر شديد، كان يقال لهم (لو كان بكم خير لفعلتم مثله، ولما بقيتم شركاء في الجريمة)، بما أن الساكت عن الحق- في هذا الموضع على الأقل- شيطان أخرس، الأمر هنا لايتعدى الاعتراض على الناقد الأدبي أو الممثل، لو كنت متميزاً لصرت روائياً أو شاعراً في حالة النقد، ولأصبحتً ممثلاً في حالة النقد الفني!

كان الانشقاق عن التاريخ الشخصي للفرد بصفته جزءاً من مؤسسة فاسدة، والانتماء إلى مؤسسة غير ملوثة جزءاً من فيضان الثورة، فالانشقاق تلو الآخر إلى أن يسقط الجسد السابق المريض بالفساد والخراب، انشقاق في كل المستويات العسكرية والمدنية وسواها....وانتقالات من أقصى الأسود إلى هرم الأبيض.
استوعب الجسد الممزق صدمة الانشقاقات بالتسويغ وملء الفراغ، وسهّل بعضها أو تغاضى عنه، كانت صدمة التفجيرات لقياداته، فرصة سانحة للتخلص ممن اختلف معهم، أو لاينالون رضاه، وتم التعويض عنها، المهم أن الكثير من مكونات الهيكل العظمي بقيت على ماهي عليه، ومثلما كانت سمات الجلال والوطنية والتقديس تُلقى على أولئك المنشقين من طرف، كان الطرف الآخر يسحب منهم صفات الوطنية والأخلاق ويلصق بهم تهم العمالة والخيانة ويتوعدهم بالويل والثبور ومصادرة بيوتهم!

ثمة متابعة غير مسبوقة لتاريخ الأشخاص ليتم تصفية هذا التاريخ وغربلته، وكشف ماضيهم أمام الرأي العام، ولاتزال حالات كثير من الأشخاص النفسية من الصعوبة بمكان؛ نتيجة أفعال لم يقم بها أولئك، بل قام بها أبناؤهم أو آباؤهم، ثمة رغبة بالعودة إلى العشائرية الفكرية والنبش في تاريخ الأشخاص والعوائل، وقد جُهزت الملفات عند الأطراف المختلفة ليتم إلقاؤها في بحر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي في اللحظة المناسبة تجاه الفريسة/ الهدف.

استُحدثت منذ البداية قوائم عار وقوائم غار: العار لمن ليس معنا، والغار لمن معنا، وغارُ أولئك عارٌ الآخرين، والعكس بالعكس، وانسجم المخوَّنون مع الحالة، وصار بعضهم يحمل اسمه الوارد في ملفات التخوين؛ ليعرضه على مناصريه بصفته فرداً قد يخضع للتصفية أو أنه يدفع أثماناً، ولابد من الاستثمار في مثل هذا التخوين، وحصل البعض على المناصب التي طمح إليها، هذا لم ينفصل عن فنانين وكتاب ليس لهم باع في هذا المجال، لكنهم اشتروا الفصل والاعتقال عبر تصريحات نارية غير متسقة، حدث هذا في ماتبقى من مؤسسات الديكتاتور وبعض مؤسسات المعارضة.

لايقوم بالتخوين مختصون ومحاكم، أو يمر بعمليات غربلة، هو أشبه بعمليات الاجتثاث التي تمت في بلدان أخرى، أو البحث في صورة الآراء التي يغلب عليها عدم الدقة يقودها أي شخص يعتقد أنه مهتم بالشأن العام، وهؤلاء بفضل ماحدث، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي صاروا معظم السوريين، وربما كذلك يدخل في الأسباب كون مايحدث قد مسّ الجميع، لاتمر تلك الأحكام بأي منفذ قانوني، أو رأي يتسم بالتأني، والتثبت، وغالباً ماتتخذ من ساحات التواصل الاجتماعي مدخلاً لها، ليس من داع لشهود تأخذ وثيقة مطبوعة، أو مقطع فيديو كي تعلنها للجمهور المتعطش فينساق كثيرون للتصديق منسجمين مع غريزة الفيسبوك وإغراءاته وانعدام ضرورة البحث عن أدلة أو سياقات. الإهمال يكون الرد المناسب من الأشخاص غالباً، إما لأنهم لايكترثون بأهمية تلك الساحات أو لايؤمنون بدورها، أو أن ما يُنشر ينتمي للحقيقة.

لم يسلم من حرب التقزيم والتخوين السورية معارضون أو منتمون للنظام الديكتاتوري، الجميع على مقصلته، ليس الأفراد وحدهم من أصابتهم تلك الحرب الضروس، بل كذلك مؤسسات المعارضة والنظام العسكرية والمدنية، ثمة تسريبات عن رواتب وتوظيف أقارب وبيع فواتير لجوء سياسي، بل وصل الأمر بكثيرين إلى حد أنهم يذكرون أسماء بعض المعارضين البارزين وهم يبيعون وعود اللجوء في المقاهي التركية، ويختلط في تلك الحرب الخيال بالواقع، المخطئ بالبريء. لامقدَّس في هذه الأيام السورية المريرة، الكل ينتقد، الكل يتذمر، الكل يريد أن يأكل من الكعكة، الكل يريد! الكثير من عمليات التخوين والتقزيم أقرب ما تكون إلى رغبة في جَلد الذات والتقليل من منجزها في نوع من العنف الذاتي، معتمدين على تاريخ اجتماعي يؤرِّخ في بعض القرى أو الشرائح الاجتماعية بخطأ أخطأه فرد ما، وصار شتيمة يوسَم بها، أو تُؤرَّخ الأحداث به، ويصل إلى أولاده وأحفاده. وبحجة الصراحة والنقد وضرورة التغيير وأهمية التخلص من الماضي القمعي يجب أن ننقد الجميع ونكشفهم، أياً كانت مكانتهم، أو حجم خطئهم، فلو كنا ننقد ولانسكت على الخطأ لما وصلنا إلى ماوصلنا إليه، هكذا يقول المتحمسون.

ومثل أيّ سيل جارف، يختلط بالتقزيم التخوين وتصفية الحسابات والانتقام والثأر والتسفيه أحياناً، بحجة أن المخاضات دائماً لابدّ أن يصيبها الزبد، غير أن الزبد يذهب وما ينفع الناس يمكث في الأرض، فحرب التقزيم لايمكنها أن تفقد البوصلة بحيث يتساوى القاتل بالمقتول والضحية بالجلاد، ولئن كانت حالات الانفعال تمنع الرؤية الأقرب إلى الموضوعية أحياناً، فإن تأريخ مايحدث برويّة وهدوء على أسس علمية وقانونية هو الكفيل وحده في تقديم تاريخ أقرب للدقة في هذه المرحلة من التاريخ السوري الموجوع.

ومن تلك المقولات، التي تطرح في هذه المرحلة، وتبدو كلمة حق يُراد بها باطل مصطلح (حضن الوطن) الذي كرسته مؤسسات الديكتاتور، متناسية أن حضن الوطن هو عملك وأطفالك الآمنون وكلمتك الحرة، وكرامتك وحريتك، وتأسيساً على ذلك، فحضن الوطن الحقيقي هو الانتماء إلى المعارضة ثقافة وفكراً ومؤسسات وأفراداً، فالجغرافيا المغتصبة ليست حضن الوطن الذي حلم السوريون به، لكنه سيعود وطناً قريباً، قريباً، كما تؤكد حركة التاريخ، وسيُضْطرُّ من وقف مع الطاغية المجرم وشاركه في ارتكاب الجرائم، بعد أن يُحَاكم، لتغيير الكثير من قناعاته كي يستطيع التآلف مع حضن الوطن الجديد، بعد أن يعود الوطن وطن

--------------
اورينت نت

د . احمد جاسم الحسين
الخميس 11 ديسمبر 2014