ثم تحول هذا الجدل إلى نوع من الاصطفاف الساخن بين من يرى ذلك تعبيرا طبيعيا عن العلاقة الحميمية بين الجنسين، وبين من ينكره ويراه تطاولا على الدين والأدب العام، حتى بات الناس ينقسمون بين معسكر القُبلة، ومعسكر رافضي القُبلة..
 
وازدادت وتيرة التجاذب أكثر بعدما صرح الناطق الرسمي باسم النيابة العمومية سفيان السليطي في إحدى المحطات الفضائية، بأن الأمر أبعد من مجرد تبادل القبل، بل يتعلق بممارسة الجنس في الفضاء العام. 

وأشار إلى أن المعنيين بالأمر "قد ضُبطا في وضع مخل بالحياء، وكانا بحالة سكر، وحين طالبهما أعوان الأمن بالاستظهار بهويتيهما، ألقى الشاب جواز سفره في وجه الأعوان، وتفوه تجاههم بألفاظ نابية".
 
وأضاف السليطي أن "النيابة العمومية أذنت بالاحتفاظ بالمتهمين، وإحالتهما إلى محكمة الناحية بقرطاج، من أجل تهمة هضم جانب موظف عمومي بالقول، والتجاهر عمدا  بالفحش، والسكر الواضح".
 
وبما أن كل شيء أصبح مسيسا وموضعا للاصطفاف والتجاذب في تونس اليوم، من الثقافة إلى الفن ومن المعرفة إلى الرياضة، فكذلك هو الأمر بالنسبة لعالم الحب والقبل..
 
بيد أن هذه الحادثة العرضية، وبغض النظر عمن يدافع عنها ومن يستنكرها، قد فتحت باب النقاش واسعا حول قضية أكبر، تتعلق بما يدخل في حيّز ما يمكن تسميته بالفضاء الخاص، وما هو مشترك ويدخل في إطار ما يعرف بالفضاء العام.
 
لا شك من أن كل المجتمعات تميز على نحو أو آخر بين هذين المجالين، وإن كان الأمر بدرجات متفاوتة. 

كما أن خطوط الفصل والوصل بين الخاص والعام ليست جامدة ونهائية، بل متحركة ومتغيرة بتغير أوضاع المجتمعات وأعرافها العامة، التي ترسم ما هو مقبول ومباح، وما هو مذموم ومنكور.
 
وعلى الرغم من أن المجتمعات والثقافات تتقارب في مساحات كثيرة بما يؤسس ما يمكن تسميته بالمشترك العالمي أو القيم الكونية، إلا أنه لا توجد معايير كلية متطابقة بين كل الشعوب والأمم في كل الأحوال، بل إن معايير المجتمع الواحد نفسه تتغير من مرحلة إلى أخرى.
 
وإن كان ذلك لا يعدم ميل ثقافة أو أمة معينة في وقت من الأوقات إلى فرض قيمها ومعاييرها الخاصة على كل شعوب المعمورة، بفضل ما تمتلكه من أدوات القوة المادية والمعنوية، ثم نزوعها نحو الهيمنة تحت عنوان الكونية.
 
ولهذا السبب، تحتاج الثقافات والأمم إلى التحاور والتعارف، لتجسير الهوة فيما بينها، وبناء ما هو عام ومشترك وتجاوز الخصوصيات المنغلقة على نفسها.
 
وعودا على ذي بدء، فيما يتعلق بملف "القبلة" وتبعاتها وما أثارته من صخب وجدل، فإننا نرى من الأهمية بمكان تجاوز إطار الأيديولوجيا، والاحتكام بدلا من ذلك إلى ما ألفه الناس في حياتهم اليومية والعادية، وما يعتبرونه مقبولا ومباحا، وما يعدونه مرفوضا في الفضاء العام، من غير تكلف أو تعسف.
 
وحتى نجلي الأمر أكثر ونفصل ما هو مجمل وعام، فإننا نقول: من الواضح إن المجتمع التونسي يتسم في صورته العامة بقدر كبير من التسامح والأريحية، وينبذ التشدد والتعصب في التعامل مع سلوك الناس وخياراتهم. 

ولكن ذلك لا يعني أنه يستبيح كل شيء، أو أنه لا يرسم خطوطا فاصلة بين ما هو خاص وما هو عام، وبين ما هو مقبول ومذموم في سلوك الأفراد والمجموعات في الحياة العامة.
 
ولذلك، قد يغض الطرف أو يتجاهل بوعي أو دون وعي قبلة عاطفية بين الجنسين هنا أو هناك، ولكنه بكل تأكيد يمتعض من المجاهرة بمثل هذا السلوك في المجالس والساحات العامة، ويصنف ذلك في باب قلة الأدب والاحترام (قلة الحياء)، لأنه يعتبر مجال العلاقات الحميمية بين الأزواج والمحبين في البيوت والحياة الخاصة، لا في الشوارع والفضاءات العامة، التي تضم الكبار والصغار والشيوخ والراشدين وغير الراشدين على السواء.
 
ولا نتحدث هنا عن التعري وما يدخل في صنفه، وهو ما لا تجيزه أي ثقافة من الثقافات، بما في ذلك تلك المبالغة في التحرر والليبرالية.
 
فمن شاء أن يقبل زوجته أو حبيبته أو خليلته (أو العكس!) ما عليه إلا أن يكبح جماح نفسه ويصبر بعض الوقت، حتى يخلوا ببعض خلف الأبواب المغلقة، بكامل حريتهما، وليس من حق أي كان، فردا أو هيئة، أن يتدخل في حياتهما الخاصة، "ولا تجسسوا!" (الحجرات)
 
طبعا، يجب أن ننبه هنا إلى أن من يرسم خطوط الفصل بين الخاص والعام ليس الأجهزة الأمنية والبوليسية، كما يجري في بعض بلاد الخليج مثلا من طرف ما يعرف بالمطاوعة، ولا رجال القانون، بل عادات الناس وأعرافهم التي تضبط المعايير العامة، وما يسمى بالأخلاق المدنية.
 
لذا، يجب أن يتجرد الجميع من حساباتهم السياسية والأيديولوجية، ويقروا بأن ما هو مقبول في لندن وباريس ونيويورك ليس بالضرورة مقبولا في تونس والقاهرة وجاكرتا وأبوجا.
---------------
صوت الوطن