نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص


من طالبة طب إلى بائعة كتب







لقد درستُ إدارة الأعمال، لكي أقرأ الروايات في الخفاء، وأحافظ على ماء وجهي.

الحياةُ مراوِغة. عندما طُلب مني أن أقدّم كلمة في حفلٍ للخرّيجين، ابتسمتُ. ربّما لأن الأمور لم تجرِ معي تمامًا بحسبِ الخطّة، ولكن دعوني أبدأ من البداية.

كنتُ دودة كتب، وبطبيعة الحال لم يكن صعبًا عليَّ أن أحصل على درجاتٍ ممتازة. عندما تحصل على درجاتٍ ممتازة، يقومُ النظام بتصنيفك. تبدأ فجأة في رؤية العالم منقسمًا إلى قسمين؛ قسم العلوم والرياضيات، لأصحاب الدّرجات الممتازة، وقسم الآداب والعلوم الإنسانية، للآخرين الذين لا يرغبون ببذل جهدٍ يُذكر. هذا على الأقل هو ما بدا لنا في تلك الأيام. كانت العلوم البحتة “متفوقة” على نحوٍ غير مفهوم، على العلوم الإنسانية. وكانت الرياضيات هي سيدة المعارف جميعها، وكان الأدب، والفلسفة، هي لأولئك الذين لم يحصلوا على مقاعد في الكليات الأخرى.


 

وأنا كنتُ دودة كتب. ليس فقط للقصص والروايات، بل للكتب الدراسية أيضًا. في لقائي الأول والأخير مع موجّهة التخصص في دراستي الثانوية، وبمجرد أن نظرت إلى كشوفات درجاتي “الممتازة” قررت، بالنيابة عني، أن أدرس العلوم أو الرياضيات. وفكّرتُ وقتها؛ من أنا لكي أتحدى النظام؟ النظام يعرفُ مصلحتي أكثر مني. لا بدَّ وأنني بارعة في العلوم والرياضيات فعلًا، حتى لو كان قلبي يدقُّ من الفرح، في ساعة التعبير في حصة اللغة العربية، أو لتذوق كلمة جديدة بالإنجليزية، أو الفرنسية حتى. حتى لو كنتُ مولعة بذلك الاختراع البشري المذهل الذي يسمونه اللغة، فقد تمَّ تصنيفي. أنا في قسم العلوم، مع أولئك المحظوظين الذين يتوقف عليهم مستقبل البشرية.

عندما أنهيت دراستي الثانوية، كان الأمر المنطقي الوحيد لمن هي مثلي هو أن تدرس الطّب. لأن هذا هو ما يتوقعه الجميع مني، ومن أنا لأخذلهم؟ عندما تخبرني المعلمات، وأفراد العائلة، وصديقاتي أيضًا بأنني طبيبة المستقبل، من أكون أنا لكي أشكك فيما يراه الجميع؟ لقد قررتُ أن أدرس الطب، في البداية، لكي أتجنّب الإذلال العلني بتحوّلي إلى تخصصٍ أقل. لسانيات، علم نفس، فلسفة، أو لا قدّر الله؛ أدب ونقد. كنتُ أرى رؤوسهم تهتز أسفًا، بمجرد تخيّل ما سيحدث لو أنني، لا قدر الله، تخليتُ عن أحلامهم الوردية بشأن حياتي. حياتي أنا. من أنا في النهاية؟ ما يهم هو المجتمع. والمجتمع قرر لي سلفًا أن أكون طبيبة. كانت أحلامهم تثقل كاهلي، لأنها كانت أحلامهم هم. أما أنا، فلم أكتشف أحلامي إلا متأخرًا.

في كلية الطب، جرت الأمور على ما يرام بالنسبة لدودة كتب. كانت درجاتي ممتازة، أو جيدة جدًا. ولكنني في صف اللغة الإنجليزية أصبت بنوبةِ هلع، كنا نقرأ يومها عن أسماء مفاصل أصابع اليد، وتعلمت بأن لكل مفصلٍ اسم، وتساءلت إن كان عليَّ أن أحفظ، منذ اليوم، أسماء مفاصلي. لا مشكلة، أستطيع أن أحفظها بسهولة ولكن، إذا فعلتُ ذلك، ثم ذهبنا إلى العظام، والغضاريف، والغدد، والهرمونات.. متى سأقرأ شيئًا أحبّه؟ كانت فكرة ألا أتمكن من قراءة الروايات، تكسرُ قلبي.

افتعلتُ مشكلة في ذلك اليوم. طلب مني مدرس اللغة الإنجليزية، الأستاذ هيوبر، أن آخذ جولةً في الكلية لأنني كنت مصدر إزعاج. لقد أصبحتُ فجأة العنصر المشاغب في الفصل. عندما خرجتُ من الفصل تنفّستُ الصعداء، وعرفتُ بأنني كنت أختنق لمدةٍ طويلة. ولكنني قلتُ لنفسي؛ تمالكي نفسكِ! يجب أن تعثري على الدافع للاستمرار، فأنتِ لستِ من الصنف الذي يستسلم. أنتِ تنتمين إلى هذا المكان، والكل يقول ذلك.

قررتُ أن أستعيد دوافعي. في تلك الأيام، لم أكن أعرفُ بأن ما كنتُ أحاول فعله هو استعارة دوافع الآخرين، للاستمرار في طريقٍ قرروه من أجلي. وكانت الفكرة الوحيدة التي بدت لي معقولة وقتها هي أن أزور “المشرحة”، وأجلس بين الجثث، لكي أجد في داخلي ذلك الصوت الذي يناديني لكي أنقذ البشرية من الأمراض. وهكذا كنتُ.. جالسةً بين جثث مشتراةٍ من أوروبا الشرقية، لأشخاصٍ فقراء، اضطر أهلهم إلى بيعِ جثامينهم لكليات الطب من أجل قليل من الدولارات. كانت هناك جثة لامرأة، وبدت لي جميلة جدًا عندما كانت حية. كانت لها يدٌ رقيقة، أصابع طويلة وناعمة. كنتُ أنظر إليها مليًا وأنا أتساءل؛ لماذا لا أشعر بأنني موجودة في المكان الصحيح، كما يقول الجميع؟

غادرتُ المشرحة. والحقيقة أنني طردتُ. لأن بروفيسور مادة التشريح وصل مع مجموعة من طلبة السنة الرابعة، وسألني عما إذا كنتُ طالبةً من صفّه، وعندما أجبتُ بـ لا، صاح بي” اخرجي برا!”. وفعلتُ. لقد خرجتُ من المشرحة، ومن كلية الطب، ومن المصير الذي قرّروه من أجلي.

ورغم أنني غادرتُ، إلى الأبد، أحلام وطموحات المجتمع بشأني، إلا أنني لم أكن قادرة على معرفة ما أريد فعله. ولأكون صادقة، لقد جبنتُ تمامًا أمام فكرة أن يقال عني، بأنني تحولت من دراسة الطب إلى دراسة الأدب. تلك ستكون هزيمة حقيقية من وجهة نظر النظام، وأنا في تلك الأيام كنت لا أزال مصابة بمرض المبالاة بما يقوله الآخرون.

اخترتُ دراسة إدارة الأعمال، لأنها بدت لي المنطقة الوسيطة بين عالم العلوم وعالم الآداب. مكانٌ يحظى باحترامٍ مقبول، وهو ما كنتُ أحتاجه في أيام الهشاشةِ والخوف. السبب الخفيُّ الذي لم أُطلع عليه أحدا، هو أنه سيكون في وسعي أن أجلس في الصف الأخير من الفصل وأقرأ الروايات التي أحبها، وأحافظ في الوقت نفسه على معدّلٍ دراسي ممتاز. لقد درستُ إدارة الأعمال، لكي أقرأ الروايات في الخفاء، وأحافظ على ماء وجهي.

حتى تلك الأيام، كانت هويتي الأدبية مبعث خجل. كانت شيئًا لا أرغب بإعلانه، رغم أنه يظهر بشكلٍ جلي، في حوارٍ عابر. يظهر من خلال اللغة، واختيار المفردات، وسرد الأفكار. ثمة شيءٌ يتبين الجميع وجوده، وهو أننا نتحدث مع شخصٍ يقرأ. هوية حاولتُ إنكارها طويلًا.

حصلت على شهادة البكاليروس في تخصص التمويل. درستُ الماجستير في إدارة الأعمال أيضًا، لأن عالم الوظيفة الحكومية كان يجبرني على لعب “السوليتير” لست ساعاتٍ في اليوم، إضافة إلى ما ستتعرفونه من عوالم النميمة، والأحاديث الصغيرة التي لا تأخذنا إلى أي مكان. شيء لا يشبه الكتب. حيث كل سطرٍ يأخذك إلى مكان ما، ولكن.. كان الواقع يطبق قبضتهُ عليّ.

كنت أشعر بقلبي ينقبضُ في كل مرة أضغط فيها إصبعي على جهاز الحضور والانصراف. وطوال ثماني سنوات، كنت أفعلُ أشياء لا أحبها؛ تقارير إدارية، لجان وفرق عمل، تحليلات السيولة ونسبة الأصول والفائض والعجز، التحول من محاسبة النظام النقدي إلى نظام الاستحقاق. أشياء أعرفها، أجيدها، ولكنني لا أحبها. لقد استغرقني الأمر ستة عشر عامًا لكي أعترفَ بما أريد فعله في حياتي. أن أقرأ الأدب، وأكتبه. لا أكثر، ولا أقل.

استقلتُ من عملي. أسّستُ مشروع تكوين. كبرت تكوين؛ صارت مكتبة، ودار نشر، ومنصة حوارية. إنني أقضي ساعات يومي كلها بين الكتب. أقرأ الكتب، أكتب الكتب، أتحدث عن الكتب وأبيع الكتب. بعد ستة عشر عامًا، حصلتُ على وظيفة أحلامي، ولكنني أعتقدُ بأن كل شيء بدأ من ظهيرة ذلك اليوم، عندما طردني المدرس من الفصل، وجلستُ بين الجثث في المشرحة.

في ذلك اليوم، ولأول مرة، قررتُ أن أنصت إلى صوتي الداخلي، وأن أقول لا، لإملاءات الآخرين، مهما بدت محبة وناصحة.

وها أنا اليوم، هنا.. في حفلٍ للخريجين، ويفترض بي أن أقدم نصيحة لكم؟ إن الفكرة في ذاتها مسلية، ولكنها مخيفة أكثر. فمن أنا لأقول لكم، ما أقول لكم؟ كما يقول درويش. لقد عشتُ حياة تجريبية، سلسلة محاولات بين الصواب والخطأ، ثم استطعت العثور على ذلك الصوت، الصوت الذي لم أفقدهُ منذ ذلك اليوم. إنه يصبح أكثر صفاء كل يوم. صوت لن أفقده أبدًا، لأنه البوصلة الوحيدة التي أملكها. إنه يخبرني طوال الوقت؛ من أنا، وما الذي يفترضُ بي أن أفعله.

لذا، إن كان ثمة نصيحة أستطيع تقديمها لكم، فهي هذه؛ جِدوا هذا الصوت، ولا تفلتوه أبدًا. علوم، آداب، إدارة أعمال، فلسفة، فنون وطبخ.. كلها تجليات لا تقدّر بثمنٍ للمعرفةِ البشرية، وما نحتاجه فعلًا، في زمنٍ مثل هذا، أن يجد كل واحدٍ منا مكانًا يحبّه. إن كل ما نقوله عن الإنتاجية، والتغيير، والإصلاح، ومحاربة الفساد، وإنقاذ العالم، يستحيل تحقيقه من دون ذلك الصوت.

إن أقدارنا تتكشّف، أو تتحدد، على قدر شجاعتنا في فعل ما نحب، في أن نكون ما نُحب.

مباركٌ لكم التخرج. المغامرة الحقيقية بدأت لتوّها.. وأتمنى لكم جميعًا رحلة باهرة.

وشكرا لكم.
---------
تكوين



بثينة العيسى
الاربعاء 30 يناير 2019