يجري في “إسرائيل” تطور بخطين متوازيين (طبعاً في ما يتعلق بموضوعنا): (أ) تعميق وتوسيع مفهوم وممارسة الحقوق المدنية للمواطن ولبرلة سياسية واقتصادية (والمقصود بذلك هو المواطن اليهودي). (ب) يجري هذا بموازاة ازدياد التطرف القومي والديني اليميني مصحوباً بانتشار مظاهر العنصرية السافرة ضد العرب. ومن هنا فإن الفرد اليهودي حامل الحقوق المدنية (التي لم تكن متطورة في الماضي، في المجتمع الصهيوني الذي كان شبه اشتراكي استيطاني مجيّش) هو في الوقت ذاته فرد أكثر تأثراً بالدعاية اليمينية العنصرية ضد العرب.
ومن هنا فالاعتقاد أن “إسرائيل” كانت أكثر ديمقراطية، وأنها تتجه نحو الفاشية هو اعتقاد خاطئ. وهو يذكرني بهتاف كنا نهتفه بحماس ونية حسنة في مظاهراتنا في السبعينات نقلاً عن مظاهرات اليسار الإسباني قبل الحرب الأهلية هناك وفي إيطاليا الثلاثينات: “الفاشية لن تمر”. كم من الوقت تحتاج الفاشية لكي تمر؟ الهتاف كله من سياق مختلف. “إسرائيل” هي استعمار استيطاني مر واستوطن. والفاشية نظام حكم عيني جداً، ليس ضرورياً أن يقوم في مجتمع مستوطنين مجيّش قام على أنقاض شعب آخر، خاصة أن هذا المجتمع قد نظم نفسه بشكل تعددي ديمقراطي، وهو موحد في الأساسيات التي ينعقد عليها الإجماع، ومنها القيم العسكرية، وليس بحاجة لانقلاب فاشي فيه. وحتى شارون الذي كان مرشحاً لقيادة انقلاب فاشي بنظر اليسار “الإسرائيلي”، كان في فترة حكمه من أكثر المدافعين عن حقوق المرأة، وأكثر المنحازين لتنفيذ قرارات المحكمة العليا. وهي محكمة ليبرالية في داخل حدود الصهيونية وتحت سقف مسلماتها. لم تصبح “إسرائيل” أكثر أو أقل ديمقراطية بل توسعت فيها الحقوق المدنية في وقت ازدادت فيه النزعة اليمينية العنصرية.
بموازاة ذلك جرى في أوساط المواطنين العرب في الداخل تطوران متوازيان أيضاً: تمثل الأول بازدياد الوعي لحقوق المواطنة والحريات المدنية بعد فترة سيطر فيها قانون والخوف من الحكم العسكري والأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” والعزلة عن الأمة العربية في الوقت ذاته. كما تميزت بمحاولات إثبات الولاء للدولة في خدمة الصراع اليومي على الحياة المادية، وللتقدم في الحياة المدنية اليومية. وتمثل الثاني بازدياد الوعي الوطني مع ارتفاع نسبة التعليم وتطور الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج وتأثير وسائل الاتصال وتوسع الطبقة الوسطى، واتساع التواصل التنظيمي بين المواطنين العرب في الداخل، والتبادل الثقافي والتجاري مع الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد نشأت إمكانية أن يؤدي وعي الحقوق عند العرب في الداخل إلى نزعة اندماجية قائمة على مطلب المساواة في الدولة اليهودية ذاتها كدولة يهودية. وهو مطلب غير ممكن التحقيق ويؤدي إلى التخلي عن الهوية الوطنية دون الحصول على مساواة، أي يؤدي إلى التهميش لا إلى الاندماج. وما زال هذا الخطر على العرب قائماً، فهنالك فئات سياسية عربية مقتنعة بهذا التوجه. من ناحية أخرى، على خط التطور الثاني نشأ خطر أن تفقد قوى وطنية فعلاً علاقتها بالحياة المدنية الواقعية للناس باتجاه يؤكد فقط الهوية الوطنية دون إطار الحقوق المدنية والمواطنة وحياة الناس في الداخل، ما قد يؤدي إلى عزل الحركة الوطنية جماهيرياً، وهذا خطر قائم أيضاً وإن بدرجة أقل.
ازدياد عدد القوانين يعني أن استراتيجية أخرى قد ضربت جذورها بين العرب في الداخل تراها المؤسسة “الإسرائيلية” كخطر ماحق. ويتلخص هذا الخطر بالنسبة ل “إسرائيل” بأن يرى الناس بحقوق المواطنة مناسبة للنضال من أجل المساواة وفي الوقت ذاته استغلال الحريات المدنية لممارسة الهوية الوطنية والتوعية الوطنية، بما في ذلك مظاهر مثل إحياء ذكرى النكبة، وللتواصل مع الأمة العربية. وإحياء ذكرى النكبة سياسياً وحزبياً وجماهيرياً ظاهرة جديدة عند عرب الداخل تعود إلى أواسط التسعينات فقط. المهم أنه حتى أواخر السبعينات وقبل انتشار الوعي الوطني بقوة كان العديد من عرب الداخل يحيي يوم استقلال “إسرائيل” إما خوفاً أو جهلاً. وكان قادتهم حتى نهاية السبعينات وأكثر، من أحزاب صهيونية وغير صهيونية، يهنئون “إسرائيل” بيوم استقلالها. ولم تكن هنالك قوانين ضد إحياء ذكرى النكبة، ليس لأن “إسرائيل” كانت أكثر ديمقراطية بل لأنه لم يكن من داع لها بنظر المؤسسة، إذ لم يحي العرب ذكرى النكبة أصلاً... وكان الإظهار السافر لعدم الولاء للدولة كدولة صهيونية نادراً.
لم تتغير “إسرائيل” وحدها، بل تغيرت أيضاً الثقافة السياسية لأوساط واسعة من عرب الداخل باتجاه وطني يحيي ذكرى النكبة ولا يرى تناقضاً بين هذا وبين كونه مواطناً بل يستغل الحريات التي تمنحها المواطنة لممارسة سياسية يراها هو حقه الطبيعي وتراها “إسرائيل” بمجملها كمتناقضة مع المواطنة، ويزداد هذا الموقف حدة طبعاً مع تطور وتعاظم قوة الخطاب الصهيوني اليميني الديني العنصري في تلك البلاد.
ويكمن الفرق الذي حاولنا طيلة سنوات أن نبلوره في أن المواطنة العربية في الداخل ليست مواطنة إيديولوجية وطنية صهيونية ناجمة عن ممارسة قانون العودة الصهيوني، ولا هي هجرة أقليات وعمال إلى “إسرائيل” يوائمون أنفسهم مع الوضع القائم، إذ اختاروا الهجرة إليها، كما يفعل مهاجر إلى الولايات المتحدة أو فرنسا. إنها مواطنة اشتقت من بقائهم في الوطن بعد احتلاله. إنهم سكان البلاد الأصليون، وليس من واجبهم التكيف مع طابع “إسرائيل” الصهيوني، ومحاولة تحويلهم إلى وطنيين “إسرائيليين” هي تزوير للتاريخ وتجن على الحقيقة وتشويه للشخصية الحضارية وتفكيك للتماسك الأخلاقي. إن أي عربي فلسطيني يعتبر نفسه وطنياً “إسرائيلياً” هو حثالة بشرية. هو الذي يقبل بأقل من مواطن وأقل من عربي فلسطيني ويتماهى في الوقت ذاته مع قمع شعبه، ومع من صادر البلاد وشرد العباد.
طبعا لا يتسع المجال لدراسة كافة جوانب الظاهرة. ولكن تلميحاً فقط نقول إن هنالك تطوراً ثالثاً هو تطور المشهدية الإعلامية والسياسة الحزبية كسوق عرض وطلب ودور التهريج الإعلامي الذي يقوم به النائب في البرلمان. هذا واقع في كافة الأنظمة البرلمانية في ظل دخول كاميرا التلفزيون إلى البرلمان. أصبح البرلمان مسرحاً، وبات الإغراء كبيراً لقسم كبير من النواب أن يتحولوا إلى مهرجين، أو ممثلي دراما حسب الحالة. ولكن عندما يكون موضوع التهريج المفضل هو التحريض على العرب، فهذا يعني أن العنصرية والآراء المسبقة منتشرة، وأن التحريض والتهويل والتخويف والافتراء على العرب ينتشر كالنار في الهشيم. وهذا عنصر خطير وغير مضحك قائم فعلياً في ما نراه تهريجياً.
وكما قلنا سابقاً فإنه في مرحلة أوباما وبعد فشل سياسة بوش سوف توجه الحكومة “الإسرائيلية” طاقة اليمين الائتلافي العنصرية نحو القدس ونحو العرب في الداخل، حيث يعتبر الشأن داخلياً ويبدو التشديد على يهودية الدولة أقل صعوبة من التشديد على الاستيطان في المناطق المحتلة.
قسم من القوانين أعلاه لن يمر بسهولة مثل اعتقال من لا يوافق على يهودية الدولة. ولكن باقتراحه للقانون يكون النائب العنصري قد حقق مرماه بالظهور الإعلامي والتحريض لعل الجمهور يتذكر اسمه. ولكن يكون أيضاً قد صب الزيت على نار العنصرية المتأججة. وقسم آخر من القوانين مثل منع إحياء ذكرى النكبة قد يمر كما مر في السابق منع رفع العلم الفلسطيني. وربما لن تتمكن هذه الدولة من سن قانون يجبر المواطن على قسم ولاء خاص لأنه ليس مهاجراً، إنه مواطن بالولادة، ولا تمنح له المواطنة أصلاً لكي يقسم قسم ولاء. وتغيير الوضع الدستوري ليصبح كذلك هو مهمة صعبة حتى شكلياً.
طبعاً يصعب على أية دولة مهما بلغت شموليتها أن تفرض الولاء والتعاطف بالقوة، فما بالك بدولة استعمارية ترغب بفرض الولاء على السكان الأصليين بعد أن حولتهم من أكثرية إلى أقلية في وطنهم؟ لا شك في أن “إسرائيل” سوف تجد منع التظاهر بعدم الولاء أسهل تشريعياً من مظاهر فرض الولاء.
هنا قمنا في السنوات الأخيرة بطرح تفسير تجديد ما زالت “إسرائيل” ترفضه. وقد دخلت معنا في صراع يعرف القارئ نتائجه. ويفاجئ المواطن العروبي الفلسطيني المستمع “الإسرائيلي” به كل مرة، إذ يقول للسلطة الحاكمة في “إسرائيل”: لا ولاء أكثر من العمل في إطار القانون، ودفع الضرائب وغيرها. ولكن التواصل مع التاريخ الفلسطيني لا يمر عبركم، والتواصل مع الوطن العربي يجب أن يكون عربياً عربياً لا يمر عبركم، ولا بإذن منكم. لم تسمع “إسرائيل” في الماضي مثل هذا الكلام، وكانت تسمع كلاماً عن “مواطنيها العرب” ك “جسر سلام”، وك “قوة ديمقراطية “إسرائيلية”” وك “معسكر سلام”. يقول نفس هذا النمط الجديد من العرب: إن فلسطينيتي معطى قبل قيام دولتكم التي قامت على أنقاض شعبي، وإن المواطنة هي حل وسط لنتمكن من العيش هنا في وطننا. المواطنة ليست معروفا تسدونه لي بشروط.
من الواضح أن جزءاً كبيراً من المواطنين العرب يتبنى هذا الخطاب إلى درجة أن “إسرائيل” باتت تدرك انها غير قادرة على وقفه بسنن الحياة المادية وضروراتها، ولا بالأسرلة الزاحفة من خلال ظروف حياة الناس “الإسرائيلية” اليومية ومن خلال الواقعية السياسية الناجمة والمترتبة عنها والتي تنتج جميعها “عرباً و”إسرائيليين””. لم يعد هذا كله كافياً، من هنا فهي ترى أنها تحتاج إلى قوانين لوقف ما تعتبره مظاهر خطيرة من عدم الولاء. وهذه خطوات قمعية، ولكنها أيضاً عبارة عن إعلان فشل الأسرلة.
(ملاحظة شخصية: جاء في تعليل النائب زفولون اورليف لقانون الحكم بالسجن على من لا يعترف ب”إسرائيل” كدولة يهودية أن حالة عزمي بشارة هي الحالة التي تؤكد ضرورة القانون. فحسب تفسيره ل”هذه الحالة” بدأ عزمي بشارة بعدم الاعتراف بالدولة بالكلام، ثم سرعان ما انتقل للقيام بأعمال مثل زيارة “بلاد العدو” من دون إذن أو “مساعدة العدو” في زمن الحرب. وهذا كلام مردود عليه طبعا. صحيح أنه زار دولاً عربية علناً من دون إذن، لانه يرفض ان تكون العلاقة بين مواطن عربي ودولة عربية بإذن “إسرائيلي”. ولكن لم يكن لدى عزمي بشارة كنائب عربي معارِض وملاحق أية معلومات يعطيها لأحد، لا “عدو” ولا “غير عدو”. ومعلوماته هي ما يقدمه من تحليلات سياسية وفكرية وغيرها يطرحها في دراساته وأحيانا في وسائل الإعلام ويناقشها مع معارفه. أما تهمة مساعدة العدو في زمن الحرب فهي تغطية أمنية على ملاحقة سياسية. ويجري حاليا تشريع مثل هذه الملاحقة لكي لا يحتاجوا في المستقبل إلى تهم أمنية لإدانة أصحاب الآراء الشبيهة بالآراء التي عبّرتُ عنها).
ومن هنا فالاعتقاد أن “إسرائيل” كانت أكثر ديمقراطية، وأنها تتجه نحو الفاشية هو اعتقاد خاطئ. وهو يذكرني بهتاف كنا نهتفه بحماس ونية حسنة في مظاهراتنا في السبعينات نقلاً عن مظاهرات اليسار الإسباني قبل الحرب الأهلية هناك وفي إيطاليا الثلاثينات: “الفاشية لن تمر”. كم من الوقت تحتاج الفاشية لكي تمر؟ الهتاف كله من سياق مختلف. “إسرائيل” هي استعمار استيطاني مر واستوطن. والفاشية نظام حكم عيني جداً، ليس ضرورياً أن يقوم في مجتمع مستوطنين مجيّش قام على أنقاض شعب آخر، خاصة أن هذا المجتمع قد نظم نفسه بشكل تعددي ديمقراطي، وهو موحد في الأساسيات التي ينعقد عليها الإجماع، ومنها القيم العسكرية، وليس بحاجة لانقلاب فاشي فيه. وحتى شارون الذي كان مرشحاً لقيادة انقلاب فاشي بنظر اليسار “الإسرائيلي”، كان في فترة حكمه من أكثر المدافعين عن حقوق المرأة، وأكثر المنحازين لتنفيذ قرارات المحكمة العليا. وهي محكمة ليبرالية في داخل حدود الصهيونية وتحت سقف مسلماتها. لم تصبح “إسرائيل” أكثر أو أقل ديمقراطية بل توسعت فيها الحقوق المدنية في وقت ازدادت فيه النزعة اليمينية العنصرية.
بموازاة ذلك جرى في أوساط المواطنين العرب في الداخل تطوران متوازيان أيضاً: تمثل الأول بازدياد الوعي لحقوق المواطنة والحريات المدنية بعد فترة سيطر فيها قانون والخوف من الحكم العسكري والأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” والعزلة عن الأمة العربية في الوقت ذاته. كما تميزت بمحاولات إثبات الولاء للدولة في خدمة الصراع اليومي على الحياة المادية، وللتقدم في الحياة المدنية اليومية. وتمثل الثاني بازدياد الوعي الوطني مع ارتفاع نسبة التعليم وتطور الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج وتأثير وسائل الاتصال وتوسع الطبقة الوسطى، واتساع التواصل التنظيمي بين المواطنين العرب في الداخل، والتبادل الثقافي والتجاري مع الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد نشأت إمكانية أن يؤدي وعي الحقوق عند العرب في الداخل إلى نزعة اندماجية قائمة على مطلب المساواة في الدولة اليهودية ذاتها كدولة يهودية. وهو مطلب غير ممكن التحقيق ويؤدي إلى التخلي عن الهوية الوطنية دون الحصول على مساواة، أي يؤدي إلى التهميش لا إلى الاندماج. وما زال هذا الخطر على العرب قائماً، فهنالك فئات سياسية عربية مقتنعة بهذا التوجه. من ناحية أخرى، على خط التطور الثاني نشأ خطر أن تفقد قوى وطنية فعلاً علاقتها بالحياة المدنية الواقعية للناس باتجاه يؤكد فقط الهوية الوطنية دون إطار الحقوق المدنية والمواطنة وحياة الناس في الداخل، ما قد يؤدي إلى عزل الحركة الوطنية جماهيرياً، وهذا خطر قائم أيضاً وإن بدرجة أقل.
ازدياد عدد القوانين يعني أن استراتيجية أخرى قد ضربت جذورها بين العرب في الداخل تراها المؤسسة “الإسرائيلية” كخطر ماحق. ويتلخص هذا الخطر بالنسبة ل “إسرائيل” بأن يرى الناس بحقوق المواطنة مناسبة للنضال من أجل المساواة وفي الوقت ذاته استغلال الحريات المدنية لممارسة الهوية الوطنية والتوعية الوطنية، بما في ذلك مظاهر مثل إحياء ذكرى النكبة، وللتواصل مع الأمة العربية. وإحياء ذكرى النكبة سياسياً وحزبياً وجماهيرياً ظاهرة جديدة عند عرب الداخل تعود إلى أواسط التسعينات فقط. المهم أنه حتى أواخر السبعينات وقبل انتشار الوعي الوطني بقوة كان العديد من عرب الداخل يحيي يوم استقلال “إسرائيل” إما خوفاً أو جهلاً. وكان قادتهم حتى نهاية السبعينات وأكثر، من أحزاب صهيونية وغير صهيونية، يهنئون “إسرائيل” بيوم استقلالها. ولم تكن هنالك قوانين ضد إحياء ذكرى النكبة، ليس لأن “إسرائيل” كانت أكثر ديمقراطية بل لأنه لم يكن من داع لها بنظر المؤسسة، إذ لم يحي العرب ذكرى النكبة أصلاً... وكان الإظهار السافر لعدم الولاء للدولة كدولة صهيونية نادراً.
لم تتغير “إسرائيل” وحدها، بل تغيرت أيضاً الثقافة السياسية لأوساط واسعة من عرب الداخل باتجاه وطني يحيي ذكرى النكبة ولا يرى تناقضاً بين هذا وبين كونه مواطناً بل يستغل الحريات التي تمنحها المواطنة لممارسة سياسية يراها هو حقه الطبيعي وتراها “إسرائيل” بمجملها كمتناقضة مع المواطنة، ويزداد هذا الموقف حدة طبعاً مع تطور وتعاظم قوة الخطاب الصهيوني اليميني الديني العنصري في تلك البلاد.
ويكمن الفرق الذي حاولنا طيلة سنوات أن نبلوره في أن المواطنة العربية في الداخل ليست مواطنة إيديولوجية وطنية صهيونية ناجمة عن ممارسة قانون العودة الصهيوني، ولا هي هجرة أقليات وعمال إلى “إسرائيل” يوائمون أنفسهم مع الوضع القائم، إذ اختاروا الهجرة إليها، كما يفعل مهاجر إلى الولايات المتحدة أو فرنسا. إنها مواطنة اشتقت من بقائهم في الوطن بعد احتلاله. إنهم سكان البلاد الأصليون، وليس من واجبهم التكيف مع طابع “إسرائيل” الصهيوني، ومحاولة تحويلهم إلى وطنيين “إسرائيليين” هي تزوير للتاريخ وتجن على الحقيقة وتشويه للشخصية الحضارية وتفكيك للتماسك الأخلاقي. إن أي عربي فلسطيني يعتبر نفسه وطنياً “إسرائيلياً” هو حثالة بشرية. هو الذي يقبل بأقل من مواطن وأقل من عربي فلسطيني ويتماهى في الوقت ذاته مع قمع شعبه، ومع من صادر البلاد وشرد العباد.
طبعا لا يتسع المجال لدراسة كافة جوانب الظاهرة. ولكن تلميحاً فقط نقول إن هنالك تطوراً ثالثاً هو تطور المشهدية الإعلامية والسياسة الحزبية كسوق عرض وطلب ودور التهريج الإعلامي الذي يقوم به النائب في البرلمان. هذا واقع في كافة الأنظمة البرلمانية في ظل دخول كاميرا التلفزيون إلى البرلمان. أصبح البرلمان مسرحاً، وبات الإغراء كبيراً لقسم كبير من النواب أن يتحولوا إلى مهرجين، أو ممثلي دراما حسب الحالة. ولكن عندما يكون موضوع التهريج المفضل هو التحريض على العرب، فهذا يعني أن العنصرية والآراء المسبقة منتشرة، وأن التحريض والتهويل والتخويف والافتراء على العرب ينتشر كالنار في الهشيم. وهذا عنصر خطير وغير مضحك قائم فعلياً في ما نراه تهريجياً.
وكما قلنا سابقاً فإنه في مرحلة أوباما وبعد فشل سياسة بوش سوف توجه الحكومة “الإسرائيلية” طاقة اليمين الائتلافي العنصرية نحو القدس ونحو العرب في الداخل، حيث يعتبر الشأن داخلياً ويبدو التشديد على يهودية الدولة أقل صعوبة من التشديد على الاستيطان في المناطق المحتلة.
قسم من القوانين أعلاه لن يمر بسهولة مثل اعتقال من لا يوافق على يهودية الدولة. ولكن باقتراحه للقانون يكون النائب العنصري قد حقق مرماه بالظهور الإعلامي والتحريض لعل الجمهور يتذكر اسمه. ولكن يكون أيضاً قد صب الزيت على نار العنصرية المتأججة. وقسم آخر من القوانين مثل منع إحياء ذكرى النكبة قد يمر كما مر في السابق منع رفع العلم الفلسطيني. وربما لن تتمكن هذه الدولة من سن قانون يجبر المواطن على قسم ولاء خاص لأنه ليس مهاجراً، إنه مواطن بالولادة، ولا تمنح له المواطنة أصلاً لكي يقسم قسم ولاء. وتغيير الوضع الدستوري ليصبح كذلك هو مهمة صعبة حتى شكلياً.
طبعاً يصعب على أية دولة مهما بلغت شموليتها أن تفرض الولاء والتعاطف بالقوة، فما بالك بدولة استعمارية ترغب بفرض الولاء على السكان الأصليين بعد أن حولتهم من أكثرية إلى أقلية في وطنهم؟ لا شك في أن “إسرائيل” سوف تجد منع التظاهر بعدم الولاء أسهل تشريعياً من مظاهر فرض الولاء.
هنا قمنا في السنوات الأخيرة بطرح تفسير تجديد ما زالت “إسرائيل” ترفضه. وقد دخلت معنا في صراع يعرف القارئ نتائجه. ويفاجئ المواطن العروبي الفلسطيني المستمع “الإسرائيلي” به كل مرة، إذ يقول للسلطة الحاكمة في “إسرائيل”: لا ولاء أكثر من العمل في إطار القانون، ودفع الضرائب وغيرها. ولكن التواصل مع التاريخ الفلسطيني لا يمر عبركم، والتواصل مع الوطن العربي يجب أن يكون عربياً عربياً لا يمر عبركم، ولا بإذن منكم. لم تسمع “إسرائيل” في الماضي مثل هذا الكلام، وكانت تسمع كلاماً عن “مواطنيها العرب” ك “جسر سلام”، وك “قوة ديمقراطية “إسرائيلية”” وك “معسكر سلام”. يقول نفس هذا النمط الجديد من العرب: إن فلسطينيتي معطى قبل قيام دولتكم التي قامت على أنقاض شعبي، وإن المواطنة هي حل وسط لنتمكن من العيش هنا في وطننا. المواطنة ليست معروفا تسدونه لي بشروط.
من الواضح أن جزءاً كبيراً من المواطنين العرب يتبنى هذا الخطاب إلى درجة أن “إسرائيل” باتت تدرك انها غير قادرة على وقفه بسنن الحياة المادية وضروراتها، ولا بالأسرلة الزاحفة من خلال ظروف حياة الناس “الإسرائيلية” اليومية ومن خلال الواقعية السياسية الناجمة والمترتبة عنها والتي تنتج جميعها “عرباً و”إسرائيليين””. لم يعد هذا كله كافياً، من هنا فهي ترى أنها تحتاج إلى قوانين لوقف ما تعتبره مظاهر خطيرة من عدم الولاء. وهذه خطوات قمعية، ولكنها أيضاً عبارة عن إعلان فشل الأسرلة.
(ملاحظة شخصية: جاء في تعليل النائب زفولون اورليف لقانون الحكم بالسجن على من لا يعترف ب”إسرائيل” كدولة يهودية أن حالة عزمي بشارة هي الحالة التي تؤكد ضرورة القانون. فحسب تفسيره ل”هذه الحالة” بدأ عزمي بشارة بعدم الاعتراف بالدولة بالكلام، ثم سرعان ما انتقل للقيام بأعمال مثل زيارة “بلاد العدو” من دون إذن أو “مساعدة العدو” في زمن الحرب. وهذا كلام مردود عليه طبعا. صحيح أنه زار دولاً عربية علناً من دون إذن، لانه يرفض ان تكون العلاقة بين مواطن عربي ودولة عربية بإذن “إسرائيلي”. ولكن لم يكن لدى عزمي بشارة كنائب عربي معارِض وملاحق أية معلومات يعطيها لأحد، لا “عدو” ولا “غير عدو”. ومعلوماته هي ما يقدمه من تحليلات سياسية وفكرية وغيرها يطرحها في دراساته وأحيانا في وسائل الإعلام ويناقشها مع معارفه. أما تهمة مساعدة العدو في زمن الحرب فهي تغطية أمنية على ملاحقة سياسية. ويجري حاليا تشريع مثل هذه الملاحقة لكي لا يحتاجوا في المستقبل إلى تهم أمنية لإدانة أصحاب الآراء الشبيهة بالآراء التي عبّرتُ عنها).