نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص


عن نافالني… بعد أربعين يوماً!






أوائل سبتمبر 2019، على هامش مؤتمر قمة الدول السبع، صرخ دونالد ترامب بحيث يسمعه حشد من المصريين والأمريكيين ينتظر لقاءه مع الرئيس المصري: «أين ديكتاتوري المفضّل!؟»، ساخراً من كلّ شيء. في العام الذي سبق ذلك كان السيسي قد حصد 97% من أصوات الناخبين، ثمّ تدهورت شعبيّته إلى 89.6% في انتخابات هذا العام. لكنّ فلاديمير بوتين، تواضع عنه إلى نسبة 88% في الانتخابات الأخيرة، ولم يتفوق إلّا على لوكاشنكو/ بيلاروسيا الذي حصد أكثر بقليل من 80% في عام 2020. ولم يصل أبداً إلى مستوى نجاح بشار الأسد في عام 2021، حين حصل على أكثر من 95% من الناخبين. لم يكن نافالني من بين المرشّحين للانتخابات الروسية في هذا العام، ولم يعلّق على نتائج انتخابات خصمه اللدود.


 

في الفيلم الوثائقي الذي يحمل أيضاً اسم» نافالني»، والذي حصل على الأوسكار في عام 2022، يوافق نافالني على البقاء بضعة أشهر أخرى في ألمانيا للراحة أو للتركيز على مراجعة استراتيجيته وتعزيز ملفّاته، بالتنسيق مع مجموعة استقصائية تتبّعت آليّات محاولة اغتياله؛ التي كادت تكلّفه حياته عملياً، لولا تدخّل القدر باضطرار طائرة إسعافه للهبوط وإدخاله مشفى على الطريق إلى موسكو. كان سيكون هنالك من الوقت ما يكفي للقضاء عليه لو استمرّ في طريقه؛ ولو لم تتدخّل ألمانيا من جهة أخرى لنقله ومعالجته في برلين، حيث استطاعت الكوادر الصحية إنقاذه، واستطاعت الكوادر الكيميائية إثبات أنه قد تسمّم بالعقار القاتل «نوفيتشوك»، المحصور المصدر بجهاز الأمن الروسي.
تنجح جهود جماعة نافالني بالتوصّل إلى أسماء عدد من «العلماء» المعنيين في مركز بحوث رسمي يعملون لمصلحة قمة السلطة تحت غطائه (كما يفعل الأسد في مركز بحوثه الشهير)، وكذلك على عناوينهم وأرقام هواتفهم. ثمّ يبدأ نافالني بنفسه بالاتّصال بهم واحداً إثر الآخر تحت تغطية مناسبة، ليسألهم باسم الكرملين، عن بعض التفاصيل حول العملية وأسباب فشلها. ينجح بعد جهد باستدراج واحد منهم للحديث عن كيفية حدوثها وتفاصيل ذلك، لإحداث تأثير قوي على من يجري الاتّصال بهم، كان نافالني يذكر أنه مساعد لنيكولاي باتروشيف، وهو الشخصية الأقرب إلى بوتين، ويشغل منصب أمين عام لجنة الأمن الوطني، الاختصاصي الاستراتيجي بكلّ النواحي الأمنية لنظام الحكم الروسي الحالي.

لا يمكن لأحد أن يتفهم عقلية نافالني مثل أهل الربيع العربي، في حين يمكن لكثير من الذين «نضجوا» في الخريف التالي أن يسخروا من تفاؤله الذي دفعه للعودة إلى حيث يدرك أن موته يكمن له خلف الزاوية

مات أليكسي نافالني في السادس عشر من فبرايرالمنصرم، في ظروف مريبة تكاد تقول «خذوني»… بعد أن كان كلّ شيء يقول إنه كان بصحة وعافية تامة قبل وفاته بيوم واحد. اختفى نافالني في أوائل ديسمبر الماضي بالمعنى الحرفي، ولم يتمكن رفاقه من الاتصال به إلّا أواخر العام، وأفادوا بأنه موجود في «مستوطنة الذئب»، في شمال وسط سيبيريا، داخل الدائرة القطبية. وبالسؤال تبيّن أن هنالك منطقة كاملة مختصة بالسجناء المهمّين والخطرين، فيها إضافة إلى ما ذكرناه مستوطنة البومة ومستوطنة الدبّ وغيرهما، مع أن كلّ المعلومات تؤكّد أن تلك التي تعود للذئب هي الأصعب أحوالاً، أو أهوالاً. ذلك كان بتوصية خاصة من بوتين، الذي لا يذكر اسم نافالني، حين يشير إليه في أحاديثه، ويقول عنه «ذلك الشخص»! أليكسي نافالني شخصية سياسية وحقوقية بارزة، بل الأبرز في روسيا، بدلالة ترشّحه للرئاسة في وجه بوتين. موضوعته الأساسية كانت: «الفساد» وهو مهمة منظمته التي أنشأها وكثّف نشاطه فيها.. أراد من خلال تلك الموضوعة أن يحفر عميقاً في أساس الديكتاتورية في أسوأ حالاتها وأكثرها تفسّخاً. بعد نجاته بمجهود ألماني بعد محاولة اغتياله المذكورة، عاد باختياره إلى وطنه، واعتُقل في المطار. كان محكوماً عليه سابقاً، ثمّ صدر بحقّه حكم جديد بما يزيد عن العشرين عاماً، وأمضى فترة قيد التحقيقات والمحاكمات، حتى نُقل إلى «مستوطنة الذئب» المذكورة.
بالتأكيد يستحق نافالني أكثر من مقالة، تحيّة خاصة لكفاحه في وكر الديكتاتورية القائدة، التي تؤثّر أحوالها في العالم كلّه؛ ولكن المقصود في هذه المقالة إضافة إلى الاستلهام من قضيّته، النظر في اختياره الطوعيّ لعودةٍ يعلم أنه سيُسجن – على الأقل – بمجرّد حدوثها.
روسيا بلد فريد، عرف في تاريخه الكثير من الطغاة، ومنهم ستالين وورثته في القرن العشرين. وكان انعتاق شعبها من نظام شمولي متقن التركيب ومحكم النوافذ، حدثاً خارقاً في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. من الطبيعي أن يكون الفساد ممرّاً للنظام الراحل إلى المستقبل، ممتزجاً ببعض مظاهر الديمقراطية، أو الحرّيات وبعض سيادة القانون، كما تتطلّب الأوليغارشيا الجديدة واقتصادها العصبوي. انتهى انحلال يلتسين وضعفه إلى أيدي الأقوياء ممّن كانوا حرس النظام السابق، وكان أقربهم وأكثرهم حيوية وكاريزما تبشّر بتثبيت مفاصل النظام الجديد هو فلاديمير بوتين، ضابط المخابرات الروسي الذي خدم في دريسدن بألمانيا الشرقية، وتدرّب على مهمّته التي كانت في حقل الغيب آنئذ، ثمّ تابع تدريبه في سان بطرسبرغ مسقط رأسه، قبل انتقاله إلى موسكو ليكون إلى جوار يلتسين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. قام بوتين بقطع رؤوس وترويض أخرى – لأن بعضها كان حروناً لا يناسب مسلتزمات الديكتاتورية – من بين شخصيات الأوليغارشيا الجديدة التي «اشترت» الاقتصاد السوفييتي وحوّلته إلى ملكيات خاصة، واستثمارات مستعجلة المكاسب. كما أعاد النظر بتركيبة روسيا ووسّع إداراتها الأمنية والقمعية، وأنعش الروح القومية ليجعلها الأيديولوجيا الجديدة لعهد ما بعد الشيوعية، مستعيناً بالخبراء المعنيين. وحين التفت إلى العالم أيضاً بنظرته نفسها إلى روسيا، استعار استراتيجية التركيز على أوراسيا، وعقلية الإمبراطورة الروسية كاترين، التي أرادت الوصول إلى المياه الدافئة الضرورية للانطلاق نحو بقية العالم، وعجزت عن ذلك في زمانها، حتى استطاع بوتين ذلك مع بشار الأسد، فأرسى وجوداً شبه دائم شرق البحر الأبيض المتوسّط.
ليس في سوريا وحدها، بل في كلّ العالم، حافظ بوتين ونظامه على تراث الاتّحاد السوفييتي الذي كان داعماً لحركات التحرر الوطني واستمرّ داعماً لما أصبحت عليه من بؤس بعد ذلك. كان يبدو وكأنّه معادٍ للإمبريالية الغربية، يختار في معظم الأحيان الجهة المقابلة للغرب دائماً ليدعمها، ويغذْي من طغيانها الناشئ، بل ليعطيها أبعاداً أخرى تساعدها على الصمود في وجه شعوبها.
على نمط تلك البلدان، استمرّ بوتين في حكم روسيا لفترة تجاوزت العشرين عاماً، وضمن لنفسه مؤخّراً الاستمرار لست سنوات مقبلة. لم يتورّع عن أن يسلّم كرسيّه لحاكم شكليّ حين التزم بألّا يكرر فترته الرئاسية أكثر مما كان مسموحاِ به، ولم يتوّرع أيضاً عن إحياء النظام الأمني المحكم الإغلاق، الذي يتحكّم بالإعلام والثقافة والاقتصاد.. والاجتماع أيضاً. منع السياسة عملياً في المجتمع، وترك لها فتحات تهوية بسيطة مضبوطة تماماً، وأقنع شعبه – أو جلّه – بأن لا بديل له، ولا إمكانية لزحزحته.
لا يمكن لأحد في العالم أن يتفهم عقلية نافالني مثل أهل الربيع العربي، في حين يمكن لكثير من الذين «نضجوا» في الخريف التالي ألّا يكونوا من أنصار التشاؤم وحسب، بل يسخرون أيضاً من تفاؤله و»الأمل» الذي دفعه للعودة إلى حيث يدرك أن موته يكمن له خلف الزاوية. حين رأى تفاحة وحيدة على شجرة منفردة جرداء في قرية يغطّيها الثلج من قرى» الغابة السوداء» في ألمانيا، لجأ إليها في نقاهته، اشتهاها وتظاهر بأنه سيقطفها ممازحاً زوجته، التي صدّقته ومنعته لأن للشجرة أصحاباً على الأغلب. قائلاً لها إنها برية لا صاحب لها.. وفي برد «مستوطنة الذئب» القاتل، لم تكن هناك شجرة ولا تفاح، لكن نافالني بقي ضاحكاً يسخر من سخافة الجلّاد كما في صورته الأخيرة من هناك… محظوظاً بنجاته من الاستماع إلى خطاب بوتين الأخير، الذي طرح فيه برنامج فترته المقبلة، وانتصاراته الكبرى، في احتفال قيصري آخر. وحين سئل عن وصيّته للشعب الروسيّ إذا قُتل لو عاد إلى روسيا، أجاب أليكسي نافالني: «لا تستسلموا أبداً»!
-----------
 القدس العربي
 

 


موفق نيربية
الاربعاء 27 مارس 2024