نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي


إسقاط هيمنة الدليل: في اعتداء الواقع على المعرفة







الوقائعية: الميل الأوّلي للدليل...تفرض كلمة الدليل صمتًا مؤقتًا بعد ذكرها في أي نقاش. لكلمة الدليل وقعٌ إسكاتيّ، فالدليل يشير إلى الحقيقة، ويحسم الجدل، ويفحِم المتسائلين. المدافعون عن مركزية الدليل في المعرفة يرون أنّ الاعتبارات التي ينطلق منها البشر تميلُ دومًا بشكل غريزي إلى الدليل، والدليل عنصرٌ مُتعالٍ عن الظروف العمليّة (أو الكلمة المكافئة لها: البراغماتية) للبشر. لا توجد ترجمة عربيّة موحدة حتّى الآن لـكلمة Evidentialism، حتى يتم الاتفاق على واحدة أقترح هنا كلمة الوقائعيَّة: من الوقوع والوقيعة. الوقائعيّة هي التيار الفلسفي الذي يؤمن بمركزيّة الدليل في الاعتقاد، وبالتالي المعرفة.
ميلنا المترسّخ إلى الدليل، كما تقول الوقائعية، ملحوظٌ في كثير من سلوكيّاتنا اليوميَّة، وقادمٌ من بنية ثابتةٍ في جهازنا النفسي. تُشرَح غريزة الدليل من خلال مثال المليونير غريب الأطوار الذي يعرض عليك مبلغ 1 مليون دولار كي تؤمن بأنّ 1 + 1 = 4. وجود سبب براغماتي (عملي) رهيبٍ هو غير كافٍ لصياغة قناعة مستقرّة بأنّ 1 + 1 = 4. يسمّي كانط غريزة الدليل بـ"الشفافيّة". القيد النفسي شفاف، ولا يمكن بالضبط شرح لماذا مبلغ 1 مليون دولار هو غير صالح أبدًا في بناء قناعة مضادة لغريزة الدليل، أي 1 + 1 = 4. جهازنا النفسي شبكة رشح تثبِّط كل الاعتبارات التي تتناقض مع شفافيّة غريزة الدليل. نحن مبنيّون بطريقة، بحيث إذا سألك أحدهم بأنّك إذا كنت تعتقدُ بأنها تمطر في الخارج، فورًا ستنظر إلى النافذة للتحقق إذا ما كان تمطر فعلًا. عميقًا داخلنا، يتولّد سؤال المعرفة وسؤال الحقيقة معًا، ويتّصلان من خلال الدليل. بلغة الفلسفة التحليليّة: أنتَ تقبل فرضيّة ما x كحقيقة، إذا وفقط إذا، كانت x قادرة على المرور بالحاجز النفسي الشفاف، أي كان لـ x دليل يشير إلى حقيقتها وينقلها من حيّز الافتراض إلى حيز الاعتقاد.


 
الميل إلى الدليل صفة نفسيّة غير قابلة للتغيير. وعليه، إذا تواجدت في بنيتنا النفسيّة أي حواجز نفسيّة تمنعُ عبور اعتبار ما من حيّز الافتراض إلى حيز الاعتقاد، فإنّ هذا الاعتبار لا يمكن أن يلعب أي دورٍ في عمليّات التأمل الداخلي للنفس، ويُطرَد من ميدان المعرفة. إذا لم تمرّ x من الحاجز النفسي الشفاف، ستُقصَى فورًا من حلبة النقاش الداخلي للذهن. بمعنى آخر: إذا لم يحقق الاعتبار شرط العبور، لن يصبح قناعة مهما كان الظرف العملي ضاغطًا وملحًّا. إذا جاءك تهديد وشيك ومؤكّد من قاتل وغد خيّرك إما بالاعتقاد بأنّ الشمس تشرق من الغرب أو خسارة طفلك، فإنّك لن تستطيع إجبار نفسك على الاعتقاد بأنّ الشمس تشرق من الغرب.
يصف الوقائعيّون الحاجز النفسي بأنّه لا إرادي، ولا مكان فيه لأي تأثير من الظرف العملي والإرادة البشريّة. حقائق مثل أنّ 1 + 1 = 2، أو أنّ الشمس تشرق من الشرق، هي قائمة بذاتها، ولا مكان للعناصر البراغماتية الثلاثة فيها: الظرف العملي، والمصلحة الذاتية، والإرادة البشريّة. لا يمكن لأي اعتبارات، سوى الاعتبارات القائمة على الدليل القطعي، أن تساهم في بناء هذه القناعات اللا إرادية. القناعات الوقائعيّة، إذًا، هي لا إرادية وتنطلق من الدليل ولا يد لثالوث الإرادة والمصلحة والواقع فيها.
حتى النصف الأول من القرن العشرين، كانت هذه الرؤية الصارمة حول الاعتقاد سائدة في فلسفة المعرفة. فعليًا، النزعة الوقائعيّة امتدادٌ للفلسفة المثالية الألمانية. الدليل، عند كانط، يتصل مباشرة مع العقل المحض، ويتعالى ويتجرّد عن الواقع كي ينتج معرفة مثالية خالصة محمية من الاختراقات العملية الثلاثة: المحك الواقعي، والإرادة البشرية، والمصلحة الذاتية.


البراغماتية: اختراق الشرط العملي
ولكن لحياتنا العملية موقف آخر، وهي مليئة بالمواقف التي توضح كيف أن الشرط الواقعي يقوض مثالية الدليل.  تخيّل أنك في القطار، ومتّجه من مدينة برلين إلى مدينة ميونيخ. الوضع هو أنّ القطار سيتوقّف في مدينة هانوفر، وأنتَ لا تعلم. لنتخيّل الآن سيناريوهين.
في السيناريو الأوّل، لا يهمك أبدًا إذا ما كان القطار سيتوقّف في هانوفر، ولكن لديك رغبة بسيطة في التقصّي عن المعلومة، ربّما لشراء شيء تأكله لأن الرحلة طويلة. تستفسر من سيدة جالسة بقربك إذا ما كان القطار سيأخذ استراحة في هانوفر، فتجيبك: "نعم، أنا سأنزل في هانوفر". تصدق السيدة، وأصلًا ليس لديك شيءٌ لتخسره إذا ما كانت تكذب. كلامها يكون دليلًا كافيًا للاعتقاد بأن القطار سيمر بلحظة توقف في هانوفر، وهي محقة فعلًا، لأن القطار فعلًا سيتوقف في هانوفر.
في السيناريو الثاني، يهمك جدًا بأن القطار سيتوقف في هانوفر. لنفترض أن والدك سيلتحق بك من هانوفر، لأنه يقيم هناك، من أجل إجراء عملية قلب له في ميونيخ، والتخلف عنها يعني الموت الحتمي لوالدك. تسأل الشخص الجالس بقربك نفسه إذا ما كان القطار سيتوقف في هانوفر، فيجيبك: "نعم، أنا سأنزل في هانوفر". في السيناريو الثاني، لأنّ هنالك كثيرًا على المحك، والقرار الخاطئ يعني خسارة والدك، غالبًا ستتجه إلى جمع مزيد من الأدلة، مثل التحقق عبر الإنترنت، أو سؤال شخص آخر، على الأقل، أو الاستفسار مباشرة من العاملين في القطار. رغم أن السيدة محقة، والقطار فعلًا سيتوقف في هانوفر، إلا أن كلامها لوحده لا يمكن أن يصبح دليلًا كافيًا للاعتقاد في السيناريو الثاني.
 
 
 




الاختراق البراغماتي للمعرفة شفاف في السيناريوهين. في السيناريو الأول أنتَ مبرر معرفيًا للاعتقاد بكلام السيدة كدليل، وفي السيناريو الثاني أنت غير مبرر معرفيًا بالاعتقاد بكلام السيدة كدليل. من جهة الدليل، لا شيء يتغير، كلام السيدة هو نفسه، وصالح للبناء عليه في الحالتين، ولكن ما يتغير هو طبيعة الظرف العملي، وتحديدًا نسبة الخطورة، وعمق تداعيات القرار الخاطئ.
شخصيًا، لدي حكاية تندرج في سياق الاعتداء البراغماتي على الدليل. أتذكر بأني كنتُ في برلين في سيارة مع صديقة، وسألتها بضرورة الذهاب إلى البنك من أجل إيداع مبلغ في حسابي. بالنسبة لي كان حاسمًا وضروريًا أن توضع الأموال في الحساب، لأن اليوم كان جمعة، وستُسحَب كل الفواتير يوم الإثنين. التأخر عن سداد الفواتير كارثة مالية وبيروقراطية في ألمانيا، لأن المبلغ يرتفع تدريجيًا مع عمل مرهق في الأوراق. مررنا بالبنك، وكان طابور الانتظار كبيرًا: ساعتا انتظار على الأقل. رغم أن صديقتي أكدت لي أن هذا الفرع من البنك يفتح يوم السبت، تطلب الأمر مني فتح الإنترنت للتأكد، وفعلًا كانت صديقتي محقة. لولا الخطر العالي والتداعيات الكارثية للقرار الخاطئ لما بحثتُ أكثر. لو كان المحك الخطر منخفضًا والمحك هادئًا، لكنت أخذت كلامها كدليل.
وكأن الدليل الذي يكون صالحًا في تبرير الاعتقاد لما يكون المحك هادئًا والخطر منخفضًا، يفقد قدرته في التأثير بالاعتقاد لما يكون المحك حارقًا والخطر مرتفعًا. مهما كان الطبيب الجراح واثقًا من خلال تقييمه البصري القادم من آلاف التجارب بأن الكلية اليسرى يجب أن تزال، سيفضل العودة إلى تقارير التشريح المرضي التي تحدد بأن الكلية اليسرى فعلًا يجب أن تُستأصَل. لما تكون التداعيات السلبية للقرار الخاطئ عالية، ترتفع الاستعدادية إلى جمع وفحص مزيد من الأدلة.
المعرفة ليست فقط نتاجَ جدليّة مُغلقةٍ بين ثنائية العقل المحض والدليل المتعالي، كما يقول الوقائعيون. المعرفة، كما قالها ديفيد هيوم قبل كل البراغماتية الحديثة، هي تفاعل بين ثلاثة عناصر: العقل والدليل والشرط التجريبي، ومصطلح الشرط التجريبي هو نفسه الشرط البراغماتي، أو الشرط العملي. الفيلسوف الأميركي نيلسون غودمان يحدد بالضبط الطرف المسؤول عن الاختراق البراغماتي للمعرفة: الزمن. الدليل الفعال في شرط براغماتي معين (أو لحظة زمنية معينة) لن يكون فعالًا في شرط براغماتي آخر (أو لحظة زمنية أخرى).
البراغماتية تعطينا أيضًا الأمل بالحياة. تخيل مريضًا مصابًا بالسرطان قال له طبيبه بأن المعنويات المرتفعة، والتحلي بروح إيجابية، قد يسرع عملية الشفاء بنسبة 20 في المئة. رغم عدم وجود دليل حاسم بأن معنويات المريض العالية ستسرع عملية الشفاء، إلا أن للمريض أسبابًا عملية ــ براغماتية للاعتقاد بأن معنوياته العملية ستسرّع التعافي. 
لولا البراغماتية لا توجد ثورات، أو أي أفق لأي تغيير اجتماعي. ومقولة الفيلسوف الإيطالي غرامشي "تشاؤم العقل... تفاؤل الإرادة" براغماتية الطابع من الناحية السياسية. في بلدٍ محكم، مثل سورية، أو في وضع مغلق، مثل الوضع في فلسطين، كل الدلائل الواقعية تشير إلى استحالة إمكانية التغيير. النظام السوري يسيطر على كل مصادر العنف في الدولة، ودولة الأبارتهايد خلقت وضعًا تبدو فيه كما لو أنها "المتفوّق الأبدي". الآن، في الحالتين، يبدو التغيير مستحيلًا، وأي تحرك انتحار. الحسابات العقلانية وتوازنات القوى الواقعية، وكل الأدلة، تشير إلى انعدام إمكانية التأثير. تفترض مقولة غرامشي بأنه رغم كل الأدلة الواقعية التي تشير إلى أن التغيير مستحيل، إلا أنه توجد أسباب براغماتية للاعتقاد بأن الإرادة الشعبية الجماهيرية قادرة على خرق الأدلة وإحداث لحظة من اللاتوازن في ميزان القوى. التشبك بالدليل لن يولد سوى السكون والاستسلام للأمر الواقع، وبالتالي فقدان القدرة على المبادرة.
أكثر من ذلك، في الفلسفة الاجتماعية والنسوية، من الضروري أحيانًا أيضًا أن تكون ضد الدليل، خصوصًا في حالة حصول ربط بين حقائق إحصائية معينة وبنى اجتماعية. إذا كانت نسبة الجريمة بين السود مرتفعة في برلين مقارنة بنسبتهم الفعلية لسكان المدينة فهذا لا يعني أن هنالك علاقة جوهرية بين السواد والإجرام. وإذا كانت نسب النساء منخفضة في المناصب القيادية للمؤسسات السياسية، هذا لا يعني أن النساء غير مؤهلات بالطبيعة لتسلم هكذا مناصب.
الاعتراف بوجود أسباب براغماتية ــ عملية للاعتقاد يعطينا أملًا بالحياة وثقة بإرادتنا، والاقتصار على الدليل، كما يقول الوقائعيون، سيحوّلنا إلى يائسين محبطين… مستسلمين لواقع الأشياء.
--------------
*كاتب يقيم في برلين. من أسرة تحرير "ضفة ثالثة".


دارا عبدالله
الاثنين 15 أبريل 2024