نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص


في مسألة القراءة







أسابيع قليلة تفصلنا عن معرض الرياض للكتاب، المهرجان الثقافي الكبير الذي تترقبه العاصمة السعودية سنوياً. هو فرصة سانحة لطرح سؤال القراءة لدى العرب، ولدى السعوديين تحديداً. موضوع شيق للمقاربة، مع المعلومات التي تشير إلى أن السوق السعودية هي أضخم سوق عربية لبيع الكتب، وأن الخاسر الأكبر هو الناشر الذي يُمنع من معرض الرياض للكتاب.



اعتدتُ في دورات سابقة للمعرض، أن أرى العراقي خالد المعالي غارقاً بنشاط وتحفز في البيع والرد على أسئلة الزبائن. صارت رؤيته بين الكتب في قمة انشغاله من المعالم (السياحية) الثابتة بالنسبة لي في المعرض، حتى مُنعت «دار الجمل» من المشاركة في الدورات اللاحقة. المعالي قال ذات مرة أنه يحقق أعلى مبيعاته في معرض الرياض، وأن الزبائن لا يشترون الكتب عشوائياً إنما لمعرفتهم السابقة بها. واستنتج من ذلك أنهم يقرأون. حسن ياغي لم يكن بعيداً عنه، سبق وكتب عن أهمية السوق السعودية للناشر العربي، وأشار إلى معلومة مثيرة، وهي أن القراء السعوديين يُقبلون على الكتب الصعبة. دلّل على ذلك بسؤالهم المتكرر عن كتب طه عبدالرحمن. وأبدى عجبه في إحدى دورات المعرض من أن الحجم الأكبر من مبيعات «المركز الثقافي العربي» كان من نصيب «تاريخ الجنون» لميشال فوكو، و «فلسفة التأويل» لغادامير. كما كان متعجباً من اهتمام رواد المعرض بروائيين مثل هاروكي موراكامي، أو إيميلي نوثومب.
لكن يبقى كلام الناشرين مسألة انطباعية، في ظل عدم وجود إحصائيات دقيقة كمية وكيفية للكتب المباعة. فمقابل ناشر ذكر أنه باع بكثرة «فلسفة التأويل»، يمكن العثور على ناشر آخر باع بالكثرة نفسها، كتاب «كارمن والأبراج»، أو كتباً عن الغيبيات والأعشاب.
إذاً مقولة «هؤلاء الناس يُقبلون على شراء الكتب لأنهم يقرأون»، من نوع النتائج المترتبة على مقدمات ليست صحيحة بالضرورة. فلا أحد يعرف مسار القراءة بعد الشراء. من يقتني الكتاب الورقي لديه أكثر من سبب: القراءة، متعة الشراء، التسوق مع الأصدقاء، التباهي، التعهد الذاتي غير الناجز أبداً بالقراءة، التصفح السريع بغية الحصول على معلومات محددة، وهكذا. لا ينبغي أن ننسى أن (المثقف) العربي نفسه قد لا يكون شغوفاً بالقراءة، بخاصة مع اعتقاده أن مكانته تكرست وقُضي الأمر. أتذكر ما قالته سوسن الأبطح أنهم اعتادوا في الصحيفة على سؤال المثقفين العرب في نهاية كل عام عن أهم ثلاثة كتب قرأوها، وأين تكمن أهميتها، وأنهم غالباً ما يصطدمون بالتهرب، لأن هؤلاء الكتاب نادراً ما يقرأون، ومنهم من يعترف بأنه أصبح يكتب ولا يقرأ.
في تقرير صادر في 2011، أن العربي يقرأ بمعدل ست دقائق سنوياً، بينما الأوروبي يقرأ بمعدل 200 ساعة سنوياً. وفي تقرير آخر للتنمية البشرية، فإن كل 80 عربياً يقرأون كتاباً واحداً في السنة، فيما يقرأ الأوروبي الواحد 35 كتاباً سنوياً، والإسرائيلي الواحد 40 كتاباً سنوياً. معلومات محبطة. وقد تكون وسائط المعرفة الحديثة التي يوفرها الإنترنت تعمل على تهميش الكتاب أكثر، لأننا مجتمعات لم تتجذر فيها القراءة كعادة أو حاجة عقلية وروحية. مع ذلك هناك من سيفاجئنا دائما كاسراً الفرضيات المسبقة. مثلاً «تويتر» مختصر ومشوش، لكن من متابعتي القديمة للمنتديات السعودية أيام سطوتها، لمست التأسيس الثقافي الجيد لكثير من الناشطين فيها. بل إن بعضهم كان يأسرني كثيراً بقدرته على مناقشة جوانب فكرية وفلسفية دقيقة ومعقدة.
إن الإنسان الذي يهتم بالمعرفة ويطلبها لا يتعاطى مع وسائطها المختلفة على أنها متقابلة تقابلاً ضدياً. إنما يأخذها في سياق تكاملي، وإن اختلفت في طبيعتها. كلها وسائل لانسياب المعرفة بطريقتها. فالإنترنت يوفر فرصة القراءة التفاعلية أو ما فوق النصية، التي تنقل النص من البعد المسطح الأحادي أو المنغلق على مضمونه، إلى النص المرتبط بأجزاء أخرى من المعرفة. أي القراءة التي تجعل من النص متعدد البعد كجزء لا يتجزأ من المعارف المحيطة به. أما الكتاب فهو الجزء المنفصل. الوحدة المنزوية بشاعرية، ذات الشكل والحدود والملمس واللون، وربما الرائجة المميزة أيضاً مع الهواء وتعاقب الأيدي.
هناك أسباب عديدة ومتداخلة تؤسس للعزوف عن القراءة. غالب سلوك الطفل الذي يكون طابعه السطحي التخريب أو الأسئلة الفضولية إنما تسكنه الرغبة في المعرفة. لكن الطفل قد يتعرض لعمليه تنميط من والديه، تدفع به نحو قبول الأشياء من دون بحث وتفكير. هناك الطفل الذي كُبتت رغبته في المعرفة. الأب الذي نشأ من دون أن تثار حاسته الجمالية أو يُوجه نحو تشكيل معرفته بذاته، لن يدفع ابنه نحو شيء من هذا. المشكلة تعيد إنتاج نفسها في دورة متعاقبة. فالقراءة لا تمثل قيمة معرفية عند الأبناء لأنها لم تكن كذلك عند الآباء.
الثنائية اللغوية تلعب دورها في نشوء المشكلة أيضاً. فطفل ما قبل المدرسة يتعلم العامية في المنزل، ويستخدمها للتواصل والتعبير عن نفسه. فإذا التحق بالمدرسة بدأ في تعلم الفصحى في الحصة الدراسية. لكن المعلم سيتوسل العامية أيضاً لإعطاء التعليمات وشرح المفردات والقواعد الفصيحة. بمرور الوقت يتلمس الطفل طبيعة الثنائية. فلديه لغة بسيطة يفكر ويتخيل من خلالها، ليست لها قواعد صارمة، يشاكس بها أصحابه، ويعاتب بها والدته، ويسمعها على الألسن في كل مكان. كما أن لديه لغة أخرى لها قواعد صارمة، لا يستخدمها سوى في القراءة والكتابة. يكبر الطفل وسيطرته على العامية ترتفع، لأنها لغة الحياة اليومية، النابضة والحيوية. فتزداد تدريجياً حصيلته من مفرداتها وأساليبها وتراكيبها وصريحها ومضمرها. في الوقت الذي تتعمق فيه غربته عن لغة القراءة الفصيحة.
من ناحية أخرى، مشكلة القراءة الجادة في العالم العربي قد تكون في وجه منها هي مشكلة الكتابة ذاتها. القصد ربما تقلّ الكتب التي تُغري الناس بالقراءة وتمنحهم لذة المعرفة في الوقت نفسه. أشك في أن بعض المبدعين والمفكرين العرب يؤمن إيماناً راسخاً بأن الجاذبية والمعرفة على طرفي نقيض. أو أن الإشراق والرونق والانسيابية تحط من قدر المكتوب.
ما هي المعادلة التي حققها علي الوردي، سعد البازعي، محمود درويش، نجيب محفوظ على سبيل المثال، وبقيت مستعصية على عشرات غيرهم؟
أحياناً نحن بين حدي التعقيد والخفة. إما أمام الكتب المعقدة حتى لو كانت تناقش قضايا غير معقدة في أساسها. وإما أمام الكتب التي تتناول القضايا المعقدة بهوائية وتسطيح. وهناك من يكتب النصوص الصعبة إلى حد ما. شروحات هاشم صالح كانت ضرورية لفهم محمد أركون لدى كثيرين. بعض الأعمال الأدبية متميزة إذا حللها الناقد على منضدته وشرّحها، لكنها لا تغري متذوق الإبداع.
كذلك فإن العزوف عن القراءة قد يعبر عن أزمة ثقة عميقة في منتج المعرفة. كثيرون لا يثقون في المثقف العربي، أو يضعونه في خانة مهرج السلطة، المتكسب بمداد قلمه، الذي يعاني انفصاماً قيمياً بين مبادئه النظرية وسلوكه اليومي، المنشغل بتصفية الحسابات، والمعتكف في برجه غير عابئ بما يكابده الناس.
الكتاب ليس كل الثقافة. هو جزء منها، ولا يمكن النظر إليه بعيداً عن مجمل الثقافة والفنون ومدى الحضور الفعلي لها في الحياة، وفي وعي الناس. ومدى ما تتمتع به من رسوخ اجتماعي وتشريعات رسمية تحميها من التعديات، وتضمن لها حرية الإبداع. من ثم يحق السؤال، هل هي مشكلة قراءة فقط، أم مشكلة أعمق، تتمثل في الموقف التقليدي المتوجس شراً من الثقافة ككل ومن أنشطتها ومنتجيها وممثليها؟!
------
الحياة
* كاتبة وعضو مجلس الشورى السعودي
 
 
@

لطيفة الشعلان
الاربعاء 27 يناير 2016