وأن يعلن امرؤ أنه لا يتحايل فهذا خيار لفظي لا ينفي بالضرورة أنه إنما يتحايل بالفعل، لألف سبب وسبب، وذلك من قلب حيلة عتيقة تقوم على نفي التحايل إياه؛ الأمر الذي لا يبيح، في المقابل، استسهال الحال التي يكون فيها صاحب هذا التكتيك، أو التقليل من شأن الملابسات التي تدفع به إلى طراز من النواس بين الوعيد الكاذب والتهديد الجدّي. بذلك فإنّ نبرة بوتين الأخيرة، بصدد «كل» الوسائل المتاحة» لا يصحّ أن تقتصر على تأويلات معتادة تتصل بالحرب النفسية والضغط المعنوي واستعراض العضلات أو إبراز أوراق القوّة في أيّ جولات تفاوضية مقبلة، وما إلى هذا وسواه؛ ولا يصحّ، كذلك، تحميلها درجات عالية من الصدقية، ليس لأنّ سيّد الكرملين «أعقل» من أن يتهوّر فيضغط على أزرار نووية، بل ببساطة لأنه غير مضطر إلى هذا، في المرحلة الراهنة من «التعرّض للتهديد» على الأقل.
صحيح أن جيشه لقي مؤخراً، ويواصل مجابهة، انتكاسات ميدانية في جبهات لاح أنها حُسمت لصالحه، خاصة في الشمال؛ وأنّ استدعاء الاحتياط مؤشر بالغ الدلالة، يسجّل تحوّلاً خطيراً في سائر المنطق الذي اتخذته «العملية الخاصة» الشهيرة؛ إلا أنّ اللجوء إلى أيّ طراز من الأسلحة النووية، بما في ذلك تلك التي تُعتبر أقرب إلى «قُنيبلة» محدودة التأثير وضيّقة النطاق من حيث الإشعاعات، ليس هو اليوم العامل الذي يمكن أن يحسم الحرب في أوكرانيا بصفة نهائية لصالح الجيش الروسي، خاصة وأنّ خطوط الانتشار الميداني على الأرض أكثر تعقيداً وتشابكاً من أن تسمح بفرز العدوّ من الصديق تحت طائلة الأذى النووي المباشر. ما يبقى صحيحاً أيضاً، ومنطوياً على أمّ المخاطر إذا جاز القول، أنّ بوتين هو سيّد نفسه ومالك القرار الأوحد والأقصى في تشغيل هذه «الوسيلة» العسكرية أو تلك، واستحقاقات المنطق السليم الأبسط تفرض وَضْع ما يتفوّه به، أو ما يلمّح إليه، على محمل أعلى إنذاراً من مجرّد التحايل.
في جانب آخر هامّ من المسألة النووية ذاتها، وكي ينصف المرء هواجس الكرملين في حقبة أخرى سبقت حرب بوتين الأوكرانية بـ39 سنة، ويومها كان الغرب والولايات المتحدة والحلف الأطلسي هي الجهات المحرّضة على تغذية حافّة نووية لعلها كانت الأخطر حتى الساعة؛ بافتراض أنّ قصف هيروشيما وناغازاكي كان مجابهة نووية من طرف واحد، بقرار الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان، في آب (أغسطس) 1945. مراحل بلوغ تلك الحافة بدأت مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) 1983، مع إطلاق الحلف الأطلسي التمرين الذي يشتهر اليوم تحت الاسم العملياتي Able Archer، والذي انطوى على إدخال سلسلة جديدة من طرائق الاتصال والتشفير والراديو بين رؤساء الدول والحكومات، بهدف التدريب على طور من التصعيد العسكري ينتهي إلى التصدي لهجوم نووي، وما يقتضيه من تفعيل نظام الدفاع النووي الأمريكي الشهير المعروف باسم DEFCON 1.. وفي أعمال لاحقة كتبها مؤرخون أمريكيون سوف تتكشف معلومات مذهلة عن قلق البنتاغون ومستشاري البيت الأبيض إزاء حقيقة عسكرية تقول إنّ السبّاق إلى تنفيذ الضربة النووية الأولى سوف يحيل المواجهة إلى «حرب الدرجة صفر» حيث لن يكون في وسع المدافع أن يردّ بما يكفي لشلّ ضربات المهاجم المتعاقبة؛ وهذا فضلاً عن مصدر قلق أمريكي خاص هو قدرة الغواصات النووية السوفييتية على التسلل سرّاً إلى مواقع في عرض المياه الأمريكية، تتيح قصف واشنطن بأسلحة نووية.
كانت الحرب الباردة في عقودها الأخيرة، مع رئاسة رونالد ريغان في واشنطن ويوري أندروبوف في موسكو، ولكنها أيضاً كانت في واحدة من أسخن مواضعاتها لجهة التجسس والتجسس المضاد، ولهذا لم تشأ القيادة السوفييتية أخذ ذلك التمرين النووي على محمل «الزعبرة» فاستنفرت ما تملك من وسائل دفاع نووية، وكاد التاريخ أن يعيد تكرار الاحتقان الأمريكي ـ السوفييتي حول صواريخ كوبا سنة 1962، ولكن مع فارق التهديد النووي الوشيك هذه المرّة. ولسوف يقف العالم على بعض أخطار تلك الحافة مع انشقاق ضابط الاستخبارات السوفييتية أوليغ غوردييفسكي بعد سنتين، وحرص ريغان على استقباله في البيت الأبيض وسط مظاهر حفاوة وتكريم غير مسبوقة. قبل ذلك كانت معلومات غوردييفسكي، حول مظاهر الاستنفار والقلق الشديد التي انتابت القيادة السوفييتية بصدد ذلك التمرين، قد وصلت إلى المخابرات العسكرية البريطانية، فنقلتها إلى مارغريت ثاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية يومذاك، التي خشيت من مضاعفات التمرين فاتصلت بالرئيس الأمريكي وطلبت التخفيف ما أمكن من الجوانب الاستعراضية والاستفزازية.
تلك ذاكرة تنفع في استعادة مناخات الحوافّ النووية التي أطلقها الحلف الأطلسي أوّلاً وسبقت تلميحات بوتين الراهنة، بل لعلها كانت وتظلّ العتبة القصوى لوضع احتمالات المواجهة النووية بين القوى العظمى على محكّ التمحيص والتدقيق؛ حتى أنّ البعض لم يعد يجد حرجاً في الحديث عن «تفكيك» مشاهد الخراب والدمار، إذا استُخدمت «قُنيبلة» نووية صغرى وليس أياً من شقيقاتها القنابل الكبرى. وبعد 21 سنة انقضت على تمرين الـAble Archer، كان بوتين قد بشّر العالم، خلال اجتماع مع أركان القيادة العسكرية الروسية، بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة، متفوّقة على كلّ ما تمتلكه جميع القوى النووية الأخرى. وتابع يقول، في تصريحات نُقلت مباشرة على شاشات التلفزة الرئيسية، إنّ بلاده لا تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: «أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب».
لم يكن بوتين يتحايل يومذاك، كما قد يقول أيّ عاقل، ولكنّ الناطق باسم البيت الأبيض، سكوت ماكليلان أعلن في حينه أنّ هذه الأخبار ليست جديدة على الإدارة، وطمأن العالم: «نحن على إطلاع تامّ حول جهودهم الثابتة لتحديث آلتهم العسكرية. ونحن اليوم حلفاء في المعركة العالمية ضدّ الإرهاب».
بعد 4 سنوات فقط، كان الرئيس الأمريكي الـ44 باراك أوباما قد اختار بوّابة براندنبورغ في برلين، لإعلان البشارة بأنّ الولايات المتحدة اتفقت مع روسيا حول محاربة الإرهاب، وعلى الدعوة إلى خفض الترسانة الصاروخية النووية بمقدار الثلث! وبالأمس فقط كان الرئيس الأمريكي الـ46 جو بايدن قد اعتلى سدّة الأمم المتحدة ليذكّر العالم بأنّ حافة بوتين النووية ليست قائمة منذرة بالمخاطر فقط، بل هي تعبر روسيا، ونحو أوكرانيا والعالم بأسره… تتقدّم!
القدس العربي