قبل ثلاثين عاما، كانت هذه التحفة المعمارية مسرحا لحدث تاريخي غير عادي. في أيلول/ سبتمبر 1989، فر الآلاف من سكان جمهورية ألمانيا الديمقراطية الشرقية من بلادهم ولجأوا إلى سفارة جمهورية ألمانيا الفيدرالية بعد أن تسلقوا عبر سور الحديقة، بينما ظلت سياراتهم الترابانت والفارتبورج المصنوعة في ألمانيا الشرقية مهجورة في شوارع براغ.
يعد هذا النزوح أحد تفاصيل الأحداث التي أدت بعد ذلك إلى تسارع انهيار سور برلين عام 1989، وفتح الحدود الشرقية للجمهورية الألمانية بعد عقود من الرقابة والسيطرة الأمنية.
في غضون أيام قليلة، تم تحويل القصر الأرستقراطي العريق، من الداخل والخارج، إلى معسكر ميداني. كانت الأمطار الغزيرة في الخريف الشمالي قد حولت الحديقة، حيث تم تثبيت المخيمات التي وفرها الصليب الأحمر، إلى نوع من المستنقعات.
كان بيتر كريستيان برجر واحدا من شهود العيان الذين عاشوا هذه الأحداث الدرامية. هذا الألماني البالغ من العمر 63 عامًا، وهو مواطن من مقاطعة كارل ماركس شتات، التي تحولت إلى شيمنيتز منذ عام 1990، أمضى أكثر من ثلاثة أشهر في المقر الدبلوماسي المزدحم.
يتذكر برجر، وكان يعمل طاهيا أنه قدم طلبات هجرة أكثر من مرة لسلطات جمهورية ألمانيا الشرقية ولكن جميعها رفض. فخطط للهرب أول مرة عام 1986، ولكنه فشل بسبب وشاية أحد الأصدقاء، وعلى أثر ذلك أمضى برجر عدة أشهر في السجن.
في يوم من الأيام أواخر شهر آيار/ مايو عام 1989 عندما شاهد تقارير متلفزة في نشرات الأخبار عن مواطنين فروا إلى براغ، قرر معاودة المحاولة. يقول "قررت فعل المستحيل للوصول إلى تلك السفارة".
نجح برجر في التسلل ليلة 21 حزيران/ يونيو، بدون أية أوراق وعبور الحدود عبر سلسلة الجبال المعدنية الفاصلة بين ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا، وكانت تمثل أيضا جزءا من كتلة الدول الاشتراكية التي تكونت عقب الحرب العالمية الثانية. عندما وصل على باب السفارة طلب السماح له بالدخول. وسرعان ما تبددت أماله في قبول طلبه الحصول على اللجوء.
يقول برجر"من حسن حظنا أن ألمانيا الفيدرالية لم تكن تعترف بألمانيا الديمقراطية، وكانوا يعتبروننا ألمانا".
عندما وصل برجر قابل 40 لاجئا من ألمانيا الشرقية. مرت الأسابيع الأولى في هدوء، إلا أنه في منتصف آب/ أغسطس، بدأت السفارة تستقبل تدفقا مهولا من اللاجئين. فقرر السفير الألماني آنذاك في براغ، هيرمان هوبر، بقطع إجازته في سويسرا. وصل اللاجئون بالعشرات كل يوم. وأصبحت الحديقة تشبه مخيم ضحايا كارثة طبيعية.
ونظرا لأن الحياة اليومية كانت بحاجة إلى نوع من التنظيم، فقد تم تعيين "إدارة للمخيمات"، حيث كان برجر رئيسها وحلقة الاتصال مع موظفي السفارة. سرعان ما بدأت حافلة من المقر الدبلوماسي في جلب الطعام ومعدات الصالة الرياضية ولعب الأطفال من مدينة فورث إم والد البافارية الواقعة على الحدود بين تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الغربية.
كان مزاج اللاجئين يتغير. يتذكر برجر "كنا خائفين من أن ينتهي كل شيء على نحو سيئ ...كان على موظفي السفارة التدخل عدة مرات حتى لا نرتكب أشياء مجنونة".
لم يكن برجر من أولئك الذين هددوا بالإضراب عن الطعام حتى يتمكنوا من الذهاب إلى الغرب على الفور. يقول برجر "الشيء الجيد هو أن الجميع كان لديهم نفس الهدف. كنا نعلم أننا يجب أن نبقى سويًا. كان هذا هو أهم شيء".
في النصف الثاني من أيلول/ سبتمبر، زاد عدد اللاجئين بشكل كبير. وفي 26 من نفس الشهر ، أبلغ السفير هوبر وزارة الشؤون الخارجية أن حوالي 1600 مواطن من جمهورية ألمانيا الديمقراطية كانوا في مقر السفارة ومنشآتها.
انتشرت في أرجاء قصر لوبوفسكي مجموعات من الأسرة ذات الطابقين حتى الدرج المؤدي إلى طوابق القصر العليا. وتم تعيين نوبات مدتها ثمان ساعات لتنظيم أوقات النوم. في نهاية الشهر، قدّر إجمالي عدد اللاجئين بحوالي 4000 لاجئ.
حل صباح الثلاثين من أيلول/ سبتمبر مثل أي يوم عادي، وتم إحاطة علم بيتر كريستيان برجر بزيارة وزير الخارجية بجمهورية ألمانيا الفيدرالية آنذاك، هانز ديتريش جنشر، إلا أنه لم ينتابه الشك في أن هذا اليوم سيكون بداية أحداث تاريخية هامة.
وعندما أعلن السياسي بالحزب الليبرالي الألماني (FDP)، من شرفة السفارة، مغادرة أول قافلة للاجئين إلى ألمانيا الغربية، انقطع خطابه الشهير بسبب ابتهاج أولئك الذين فروا من ألمانيا الشيوعية بذلك النبأ. وفي المساء انطلقت ستة قطارات من براغ باتجاه الغرب. كان برجر يستقل آخرها وتطلع عيناه إلى المحطات الخاوية التي كانوا يمرون بها، إحداها كانت المدينة التي شهدت مسقط رأسه.
بمجرد وصوله إلى ألمانيا الغربية، عاش برجر في مقاطعة بافاريا، ثم بعد ذلك في شمال إيطاليا، ومن بعدها إسبانيا، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه عام 2009.
يذكر أنه في ذلك الوقت، كانت المجر قد أعلنت في العاشر من أيلول/ سبتمبر أن بوسع مواطني ألمانيا الشرقية الخروج بحرية من البلاد. كما أستقبلت السفارة الألمانية في وارسو لاجئين بلغ عددهم خلال ثلاثة أشهر ستة آلاف لاجئ من ألمانيا الشرقية، كانوا يرغبون في الوصول إلى الغرب.
بالرغم من ذلك، تركت أحداث براغ أثرا تاريخيا عميقا، ولهذا في الثامن والعشرين من سبتمبر، تحي السفارة الألمانية ذكرى الأحداث الجسام التي عاشها المقر الدبلوماسي بالعاصمة التشيكية، ويطلقون على هذا الحدث "عيد الحرية"، وقد شهده هذا العام نحو 300 من اللاجئين القدامي وأسرهم، الذين مروا بتلك الأحداث.
وبهذه المناسبة تم تنظيم استعراض بالسيارات القديمة التي كانت تصنع في ألمانيا الشرقية. وكان بيتر كريستيان برجر من أبرز المدعوين لاحتفالات العام الجاري بعيد الحرية بصفته واحدا من أبطالها وشاهد عيان على ما جري في ذلك الوقت.
في الوقت الحالي يتعاون الألماني ذو الـ63 عاما مع مركز حقوق الانسان بمدينة كوتبوس الألمانية ويسافر بشكل منتظم إلى العراق للعمل كمتطوع في عمليات الإغاثة بمخيمات اللاجئين في مدينة الموصل.
دفعه الجدل المحتدم حول مسألة اللاجئين في ألمانيا للتفكير في مصيره، حيث يقول "جاء أشخاص فارين من مناطق حروب ونزاعات، عاني بعضهم من أمور أكثر فظاعة مما عانيناه نحن في ذلك الوقت، وكل ما يطمحون إليه هو العيش في سلام وأمل في مستقبل أفضل".