نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


حكايات الحب العذري منحولة والحقيقي منها لا يخلو من الإشارات الشهوانية





حين يأتي الحب يكون دوما مصحوبا برفيقتيه الشهوة والغيرة، وهذا الثلاثي العاطفي المتلازم إذا فرقته ضاعت معانيه جميعا بحيث يصبح الحب شيئا آخر مختلفا غير الذي نعرف وكذلك الأمر مع رفيقتيه اللتين تلازمانه ملازمة الأوكسجين للماء.
واعرف سلفا انه من الصعب الحديث عن الحب العذري في عصر مشكوك في عذريته لكن ماذا افعل، وللقلم ـ أو للكومبيوتر ـ ورطات، فما ان نشرت بضعة سطور عن عدم ثقتي بوجود حب عذري بالطريقة التي يتناقلها رواتنا في العصور الأولى حتى حمل البريد والانترنت عشرات الاحتجاجات. ولدهشتي وجدت ان لبني عذرة حزبا قويا معاصرا كنت أظنه انقرض واندثر قبل روميو وجولييت.


  في القرن التاسع الميلادي لم يكن العرب في قلب جزيرتهم
ينتظرون على باب المخدع حين تكون ابنتهم داخل الخباء
مع غير زوجها
 
رقية من عمان تقول: انتم الرجال تفسدون كل شيء وتشككون في كل شيء لأنكم حسيون لكن الحب العذري موجود والنساء تعرفه أكثر من الرجال.
وأوشك ان أوافق على هذا التوجه ثم أتذكر ان الرجل ـ الشاعر طرف أساسي في هذه المعادلة وما دمنا نعترف بحسية طرف واحد ما المانع ان نمد التفسير المنطقي على الطريقة السقراطية: "كل إنسان حسي بالجينات جميل وبثينة إنسانان إذاً هما حسيان".
وقد ذكرت هذين الاثنين لأنهما الأشهر في تراث الحب العذري، ولأن الدكتور محسن مصطفى الوهيبي اتعب نفسه وأرسل مع احتجاجه على نفي ظاهرة العذرية في العشق العربي قصة جميلة عن عفة بثينة وجميل سأذكرها كاملة بعد ان أوضح ان نفي عذرية العشق لا يعني نفي ظاهرة العفاف فهناك عفيفات وعفيفون لكن ليس هناك من يحبون ولا يشتهون وإذا وجدوا يصبح لعلاقاتهم أسماء أخرى فهناك حب الصداقة وحب الأخوة وحب الأمومة وحب الجيران، لكننا نتحدث تحديدا عن عشق الذكر للأنثى والمرأة للرجل ففي هذه بالذات يصعب نفي الشهوة والحسية.
وحسب قصة الدكتور الوهيبي وكنت قد قرأتها أيضا في أغاني أبي الفرج ان امة لبثينة وشت بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما ان جميل عندها الليلة فأتياها مشتملين سيفين فرأياه جالسا يحدثها ويشكو لها إلى ان قال يا بثينة: أرأيت ودي إياك وشغفي بك إلا تجزينه؟ قالت وماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين، فقالت: يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيدا عنه ولئن عاودت تعريضا ـ رجاء لا تنسوا نقطة الضاد ـ بريبة لا رأيت وجهي أبدا.
وتمضي الرواية فتؤكد ان جميل ضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه ولو علمت انك تحبينني اليه لعلمت انك تحبين غيري ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد أو ما سمعت قولي:

واني لأرضى من بثينة بالذي
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
وبلا وبان ولا أستطيع وبالمنى
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله
وعند هذا الحد قال أبو بثينة لأخيها: قم بنا فما ينبغي لنا بعد اليوم ان نمنع هذا الرجل من لقائها فانصرفا وتركاهما.
وبلا زعل يا دكتور وهيبي هذه قصة أطفال وليست حكاية عشاق كبار وكل ما فيها يشي بالوضع والانتحال فكأن الأبيات فصلت لأهل عشيقة ينتظران الإثبات على براءة الشرف الرفيع إما كيف صبروا كل ذلك الوقت وهم يستمعون فالأمر أغرب.
وفي سيرة جميل عشرات القصص عن إماء لا يشين بل يرتبن لقاء الحبيبين وبثينة ـ ما شاء الله عليها ـ كان عندها قبيلة كاملة من المساعدات على ترتيب مواعيد الغرام فغير الإماء والجواري هناك بنات خالتها ليلى ونجيا وأم الحسين وقد أبصرنه كما أسلفنا ذات قصة في خبائها وقد احتضنها ـ عذريا ـ ونام وطلع عليهما الفجر فلما احضر لها عبدها الحليب ورآها على تلك الحالة ذهب ليخبر زوجها لكن بنات الخالة ـ جزاهن الله كل خير ـ سارعن إلى التصرف ولفلفة الفضيحة فأيقظن شاعر الحب العذري من النوم في العسل وألبسنه ثياب نساء ليخرج من المضارب ونامت إحداهن ـ لعلها أم الحسين ـ إلى جانب بثينة وغطت وجهها، فلما جاء الزوج وكشف اللحاف وجد بثينة وابنة خالتها، فوبخ العبد، وطرده شر طردة. وهذه القصة وغيرها قد تكون من القليل الحقيقي الذي تجد فيه دوما ألغازا ورموزا سرية وبعضه مفرط في شهوانيته، إما المنحول فمنحول مصفى من الشوائب الحسية.
مساكين هؤلاء العبيد ـ والله ـ فهم يشاهدون كل شيء في القصص الواقعي ويسكتون ولو نطقوا لتغيرت كل قصص الحب العذري بحليبها ومضاربها وقصائدها، لكنهم تعلموا الصمت من الذي جرى لأخيهم في العبودية سحيم عبد بني الحسحاس الذي نطق فأحرقه السادة أصحاب الشرف الرفيع وضربوا إسته بعيدان العرفج، لكنه قبل ان يموت ترك قصيدة تشي بما يعرفه أولئك العبيد الذين لا يصدقون مثلنا بخرافة الحب العذري، ومن تلك القصيدة التي أوقدت نار نهايته:

فيا ليتني من غير بلوى تصيبني
أكون لأجمال ابن ايمن راعيا
وفي الشرط أني لا أباع وإنهم
يقولون غبق يا عسيف العذاريا
فأسند كسلى بزها النوم ثوبها
إلى الصدر والمملوك يلقى الملاقيا
توسدني كفا وتثني بمعصم
عليَّ وتحوي رجلها من ورائيا
وتقول السيدة هيفاء الناصري في رسالة على الانترنت: ما رأينا قبلك من ينكر هذه الظاهرة النبيلة في حياة العرب ولا من يعتبر العذرية ضعفا.
لا يا سيدتي قبلي كثر وأولهن سكينة بنت الحسين وهي من الناقدات البارعات ففي الأخبار إنها أخرجت جرير من مجلسها وعابت عليه قوله:

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
حين الزيارة فارجعي بسلام
وقالت له: أفلا أخذت بيدها ورحبت بها وقلت لها ما يقال لمثلها أنت عفيف وفيك ضعف.
هل تستطيعين يا سيدتي ان تخبرينا ماذا تريد صائدة القلوب من طرقها للشاعر آخر الليل؟ أللمسامرة...؟ أم المفاكهة..؟ أم الحديث عن أسعار بورصة نيويورك؟ أم لاستيفاء إيجار الخيمة أو الشقة قبل ان يهرب الشاعر في الصباح الباكر.

معركة غير غرامية
المفروض ان نستخدم عقولنا حين نقرأ، فما كل قصة وثيقة والمنحول في حكايات العشق العذري أضعاف الحقيقي الذي يحمل دوما سمات الحسية والشهوانية الواضحة. وجميل الذي فتحت قصته أبواب الانتقادات لم نره في مخدع بثينة فحسب وهو نائم وأهلها مستيقظون على باب الخباء، فنحن نراه في حكاية أخرى يضبط متلبسا بالجرم المشهود وهو مقابلة الحبيبة الممنوع من لقائها بأوامر سلطانية فلا يهرب ولا يختفي إنما يطارد والد بثينة وشقيقها بالسيف. ففي واحدة من روايات الهيثم بن عدي نرى هذا الموقف الذي يصعب فهمه أيضا:
"طال مقام جميل بالشام ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها اليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه وواعدته في موضع يلتقيان فيه فسار إليها وحدثها طويلا واخبرها خبره بعدها وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أخوها وأبوها حتى هجما عليهما فوثب جميل وانتضى سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب وهربا من المعركة غير الغرامية وناشدته بثينة الله إلا انصرف وقالت له ان أقمت فضحتني ولعل الحي ان يلحقوك فأبى وقال أنا مقيم وامضي أنت، وليصنعوا ما أحبوا فلم تزل تناشده حتى انصرف وهو ينشد:

وقفت بها حتى تجلت عمايتي
ومل الوقوف الأرحبي المنوق
تعز وان كانت عليك كريمة
لعلك من رق لبثينة تعتق
والقصيدة طويلة وأدق ما فيها ربط الحب بالعبودية الاختيارية فالمحب عبد من أحب على حد تعبير شيخ المحبين ابن حزم الاندلسي والذي يزيد في عبوديته ليس العفة بل الشهوة المتجددة مثل ماء نهر يستحيل ان تسبح داخل مجراه في ذات الماء مرتين مع ان النهر يظل نفسه، وأجمل ما في الحكاية السابقة ان الحبيبة هي التي تبادر إلى طلب اللقاء وهذا قليل في التراث العربي فالحبيبات سلبيات ينتظرن ويكن ردة الفعل وليس الفعل، لكن ها نحن نراها ونرى حبيبات أخريات غيرها كعزة وليلى الاخيلية يبادرن، وجميعهن من عاشقات عذرة الحقيقيات. وبالمناسبة فإن الحب العذري نسبة إلى قبيلة عذرة ولا علاقة له بالعذرية والعفة حسب الاصطلاح اللغوي. إما حمولة المصطلح العفيفة فقد جاءت بعد دهر من تلك القصص الشيقة والشهوانية التي يقبل العقل بعضها ويشك في معظمها، خصوصا في القصة التي قدمها الدكتور الوهيبي عن شقيق وأب ينتظران ببرود وبلهنية خارج مخدع بثينة وهي داخله مع شخص غريب غير زوجها. هذه قصة قد تحصل في السويد أو الدنمارك في القرن العشرين وليس في القرن التاسع في قلب الجزيرة العربية.

( 2 )

قيس وليلى وصفة نفسية مجربة
لمجتمعات مكبوتة تقف ضد الحب
وتحشر العذول والحرمان في معظم أغانيها وقصصها العاطفية
الحب أجمل الأوهام، لذا لا يجوز التعامل مع القصص العاطفي بميزان الصحيح والمنحول فتلك عقلية نظار مدارس ومراقبي امتحانات، وان كنا قد اضطررنا إليها الأسبوع الماضي تحت إلحاح أسئلة كثيرة عن حقيقة الحب العذري فها نحن نحاول ان نكحلها ونأمل ألا نعميها.
ان خيط التوهم ليس كخيط الكذب، ففي الأول الذي نجده بغزارة في قصص الحب لا توجد نوايا خبيثة ولا رغبات دفينة في الإيذاء والإخفاء، لكنه مجرد خيال يعمل على خلق ما هو غير موجود وغير معقول ثم يبهره ويزينه ويحسن نكهته ليبدو معقولا وموجودا عند مستمعين متعطشين، فهو والحالة هذه، وصفة مجربة وناجحة لأنه يقدم خدمات نفسية مجانية لمن يحتاجونها، ومن هو أكثر حاجة من المكبوت عاطفيا الى قصة حب تبل ريقه ليفرح ويتفاءل ان كانت نهايتها سعيدة أو يسكت ويتعزى حين يسمع عمن يشاركه الهموم ذاتها.
ان التوهم والتأليف الخيالي حاجة ماسة للمجتمعات البدائية فأنت ان ضجرت اليوم تذهب الى السينما أو المسرح أو تقرأ كتابا أو تكتفي بالتلفزيون، لكن ماذا يفعل بضجره وكبته من ليس عنده غير الرمل دوما وضوء القمر أحيانا وبينهما تقاليد أكثر قسوة من الجلاميد.
وقبل ان نخوض في تفاصيل أكبر كذبة جميلة اخترعها الرواة العرب، دعونا نتذكر ان القصص الواقعي لا يصلح لشحذ الخيال، وان القصة المتوهمة تحتاج الراوي أكثر من حاجة الراوي للقصة فما بين الخيال والواقع مساحة وهم استولى عليها الرواة وحرروها وحولوها الى واحات سياحة روحية يقصدهم الناس من أجلها، فالراوي الجيد في هذه الواحات ليس من يصدق وينقل التفاصيل بدقة بل من يخترع ويضيف ويسربل الحقائق بالأوهام التي يدرك ان حاجة مستمعيه إليها كحاجة القمح للمطر.
وانطلاقا من هذه الخلفيات فإننا لا نؤذي التراث العربي ولا نحاربه حين نقول ان حكاية مجنون ليلي أكبر كذبة اخترعها الرواة بل نضع القصة في سياقها الصحيح فهي في الحكم النهائي ـ ومهما تأسينا لصاحبها وصاحبتها ـ محصلة وهم جماعي اخترعه البدو ليرطبوا به جفاف الصحراء وليعزوا أنفسهم بالإيحاء، ان كل مصيبة تهون أمام فقدان الحبيب فنحن هنا مع شكل من أشكال التطهر الإغريقي الذي يغسل ضمائر البشر بإغراقهم بالتراجيديا.
وكما أكثر الإغريق من المسرحيات التراجيدية أكثر العرب من قصص الحب المحطم والتعيس والمنكود الى درجة انك لا تجد قصة حب واحدة بنهاية سعيدة، وان سالت نفسك لماذا يوجد العذول في كل قصة حب و في واحدة من كل ثلاث من أغاني الحب عندنا على الأقل فسوف تجيبك تلك النفس الحلوة الذكية. ان تلك الظاهرة نشأت لأننا مجتمعات تقف ضد الحب وتضع في وجهه الحراس والبوابات والأسوار وكل ما يكرهه محمد عبده في واحدة من أجمل أغانيه التي تلعب على هذه الأوتار المعروفة في النفس العربية.
ان قصة قيس بن الملوح مع ليلى العامرية لا يمكن تفسيرها الا بهذه الحاجة الجماعية للتطهر النفسي وكل من يقرأ أخباره بدقة يكتشف ـ وان لم يكن من أصحاب الخبرة بالبحث العلمي ـ تناقضها وعدم اتساقها وهي مشكلة شغلت من قبلنا فاضطروا لوضعها في إطار الصحيح والمنحول لان مناهج دراسة علم النفس لم تكن قد وجدت لتساعدهم على فهم الغنى العاطفي في تلك النصوص وحاجة المجتمعات إليها كشكل من أشكال العزاء في وجه التصحر العاطفي، فالبشر أيضا يتصحرون ويجفون وتقل المساحات الخضراء في قلوبهم حين لا يحبون ولا يجدون حولهم من يحب أو يحكي عن الحب ولو من باب التحذير و التراجيديا.

شكوك ابن الكلبي
أول مشاكل قيس ليلى ان الرواة لا يتفقون على اسمه فهو تارة قيس وأخرى مزاحم وثالثة معاذ ورابعة مهدي والشك بوجوده قائم منذ عصره فابن الكلبي يشير صراحة الى وضع القصة حين يقول: أخبروني ان حديث المجنون وشعره وضعهما فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له وكان يكره ان يظهر ما بينه وبينها فقال تلك الأشعار ونسبها للمجنون.
وعلى خلاف من جلس ليخبره فان هناك من ذهب ليحقق ويتحقق وهو أيوب بن عبادة الذي قال بعد جولة مضنية على مضارب العامريين:
سألت بني عامر بطنا بطنا عن مجنون بني عامر فما وجدت أحدا يعرفه.
وتطول حكايات من سألوا فخذا فخذا وقلبوها ظهرا لبطن فما وجدوا ما تطمئن اليه عقولهم لكن قلوبهم كانت مطمئنة ومستمتعة بقصائد عاطفية مليئة باللوعة والشجن وحب يرافق الإنسان من المهد للحد:

تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البَهم يا ليت أننا
إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البَهم
وهناك من يعتمد بنفي حكايات ليلى والمجنون ليس استنادا الى التناقض بالأسماء وسؤال سكان الحارات والأحياء بل الى طبيعة القبائل التي ينسبون إليها رقة عاطفية ليست منها ولم تسمع عنها، فابن دأب الإخباري يطرق الإناء من جانب آخر ويقول سألت رجلا من بني عامر أتعرف مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق؟ فقال:
هيهات بنو عامر أغلظ أكبادا من ذلك إنما يكون هذا في اليمانية الضعاف قلوبها الصعلة رؤوسها، فإما نزار فلا.
ونزار هذا الجد الأكبر لقيس وليلى فهم حسب رواية التوهم من قبيلة واحدة من قبائل الأصل النزاري القديم الذي يختلف عن الفرع النزاري الجديد، الذي أسسه نزار قباني أستاذ علم التوهم والإيهام في المسائل العاطفية والذي أدرك أكثر من غيره أننا لا نعيش ويستحيل ان نعيش دون حب أو وهم حب، وان ذلك الحب يظل كبيرا طالما امتلكنا القدرة على عدم تأطيره وتقنينه وتحويله الى فيلم هندي أو مصري حيث يعيش الجميع في سبات ونبات، ويخلفون البنين والبنات، وخير ما يمثل المذهب النزاري الحديث في جعل الحب يرقص حافي القدمين على حد الوهم والترقب قصيدته الذائعة ـ الى تلميذة:

قل لي ولو كذبا كلاما ناعما
قد كاد يقتلني بك التمثال
كلماتنا في الحب تقتل حبنا
ان الحروف تموت حين تقال
الحب ليس رواية شرقية
بختامها يتزوج الأبطال
لكنه الإبحار دون سفينة
وشعورنا ان الوصول محال
هو ان تظل على الأصابع رعشة
وعلى الشفاه المطبقات سؤال
هو هذه الأيام تسحقنا معا
فنموت نحن وتزهر الآمال
ان قصة مجنون ليلى تحقق كل العناصر المطلوبة للحب العربي المشروحة نظما في هذه القصيدة فالوصول محال والنهاية التقليدية مرفوضة والرعشة على الأصابع والشفاه والسفينة تبحر الى ما لا نهاية في بحر لا يحده غير حلم وجنون.
هل تذكرون خاتمة رواية ماركيز (حب في زمن الكوليرا)؟ عاشقان يلتقيان آخر العمر على ظهر قارب ويحيط بهما الحرس والطاعون ولا مهرب الا ان تظل السفينة مبحرة الى ما لا نهاية فهذا ما يتمناه كل عاشق حين تكون حبيبته معه، أما حين لا تكون كما في حالة قيس وليلى ـ مجازيا ـ فلا مانع عند مجتمعات تحت كل خيمة فيها مأساة عاطفية من خلق عشرات المآسي المماثلة للتعويض النفسي، فإذا اشتاق احدهم الى أرض كان يقابل فيها الحبيبة وحن إليها حنين الإبل الى المرتع الخصب، وذهب يتنشق عند أطلالها ريح الحبيب وجد في قصائد قيس الافتراضي ما يعزيه:

أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وإذا وجد من يلومه كثيرا على تضييع نفسه في حب يائس محروم، وكل أنواع الحب بائسة ومحرومة في مجتمعات الكبت، سارع الى أقوى الأسلحة ليزعم كما زعم قيس ان الحب أصعب من الجنون وهذه رخصة جاهزة لتفعل ما تشاء كلما زادوا في تبكيتك ولومك فهذا عين ما فعله الراوي العربي الذي تخيل ان أم قيس ذهبت الى ليلى تسألها المساعدة في ان يثوب اليه رشده وبعض عقله فأتته ليلا خوفا من أهلها وقالت له: يا قيس ان أمك تزعم انك جننت من اجلي فأتق الله وابق على نفسك فبكى وأنشد:

قالت جننت على رأسي فقلت لها
الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه
وإنما يصرع المجنون في الحين
وذا نهشت الغيرة قلب عاشق زوجوا حبيبته من غيره قسرا وجد العزاء عند مجنون سارع ذات يوم يستوقف زوج حبيبته ليسأل ذلك السؤال الغريب الحزين:

بربك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلت فاها
وطبعا فعل، فالرواق الصباحي خلق للقبل، ولما هو أبهى وأجمل لكن هذا ليس مما يتحدث عنه الأزواج ولا المحبون ولا العقلاء، إذن لا بأس ان يأتي السؤال على لسان مجنون اختلطت عليه الأمور جاز له كالشعراء ما لا يجوز لغيره.

عشق الأثافي
وإذا اضطررت ان تخفي أسرارك وتظهر غير ما تبطن حرصا على من تحب وخوفا على سمعتها وربما حياتها وجدت الجواب هذه المرة عند ليلى وليس قيس فقد وضع رواة الأوهام الجميلة على لسانها أشعارا لا بأس بها من بعضها قولها لهكذا مناسبة:

كلانا مظهر للناس بغضا
وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون مقالتينا
وفي القلبين ثم هوى دفين
وبالمناسبة فإن الحالات الوحيدة التي تسامح فيها المجتمع مع خيانة الزوجات مهما كان نوعها ـ حسية أو روحية ـ كانت مع المجانين والعذريين، فليلى العامرية متزوجة وكذلك ليلى الأخيلية ولبنى وبثينة والقائمة تطول، وكلهن عاشقات استمرت قصص حبهن بعد الزواج السعيد.
ان الحب عند الأعراب وسواء كان تصحرا عاطفيا عربيا أو تطهرا على الطريقة الإغريقية ينهض كالأثفية التي يطبخون عليها على ثلاث قوائم العاشق والمعشوقة والعذول ـ يا عواذل فلفلوا ـ ومن شاء ان يقوي اثفيته ويجعل قصته أكثر إثارة يضيف العمود الرابع وهو الزوج وغالبا ما يختاره الرواة ليبهجوا مستمعيهم دميما بخيلا جبانا حتى يظل التعاطف محجوزا كليا للعاشق الجسور:

من راقب الناس لم يظفر بغايته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
إذن ليكن العاشق على جنونه فاتكا لهجا مقداما فصيحا ناظما ناثرا وليظل كل ما هو عكس هذه الصفات للزوج العاقل المسكين الذي يدخل القصة مرغما ويفوت المجالس كشخص غير مرغوب فيه ـ بيرسونا ننا كراتا ـ ففي سهرات السمر على ضوء القمر لا تحلو غير أحاديث الحب والغرام بين قوم قاوموا جفاف الطبيعة وقتامة التقاليد بالقفز الى منطقة التوهم العاطفي، حيث كل شيء في حكم المباح حتى يدرك شهرزاد الصباح وتنام غرائز المحرومين على قناعة أننا لسنا في هذا الهم وحدنا.... ألم أقل لكم ان اختراع الحب في مجتمعات تقف ضد الحب حاجة نفسية ماسة وعملية ضرورية مباركة، فحين لا ينزل المطر لا ننتحر، لكننا نعزي أنفسنا بوفرة العطشى حولنا ونظل نحلم بخرير شلالات رخيم لأنهار طويلة وقصية.

 
 


د . محيي الدين اللاذقاني
الخميس 26 سبتمبر 2024