قبل الإنجاز والأداء الاقتصادي، تأتي قضية الهوية، سُجن بسبب خطابه “المآذن حرابنا والقباب خوذنا” في جمهوريةٍ تفاخر مؤسّسها بعاصمة جديدة لم يبنِ فيه مسجدا. هذا الصراع المحتدم منذ قرن هو محرّك الناخب التركي، فالهوية التركية التي صاغها أتاتورك تُصادم التاريخ والدين، وتقطع مع الإرث العثماني والفضاء الحضاري العربي والإسلامي. حارب المساجد وتوقف بناؤها وحوّلت مساجد إلى ثكنات عسكرية، وحارب الحجاب ومظاهر التدين واللغة العربية. استبدل في القانون ستة آلاف كلمة عربية بمثلها فرنسية، وألغى الأذان بالعربية. ولا يزال الأتراك يذكرون عدنان مندريس (رئيس الوزراء 1950 – 1960) بإعادة الأذان بالعربية ويرون في ذلك سبب إعدامه.
اختار أردوغان المسكون بالتاريخ موعد الجولة الأولى في الرابع عشر من مايو/ أيار بشكل مقصود، ليكون تاريخا لهذه الانتخابات، وذلك ليتناسب مع تاريخ التحوّل الديمقراطيّ الحقيقي الأول في تاريخ الجمهورية التركية، والذي أسفر عن فوز مندريس في انتخابات 1950 ووصول حزبه (الحزب الديمقراطي) إلى سدّة الحكم، وقد رفع الحزب آنذاك شعار “كَفى! فالقرار الآن هو قرار الشّعب”، وقد استطاع الحزب الديمقراطي أن يطوي صفحة حكم الحزب الواحد (الشعب الجمهوري) والذي امتدّ من تأسيس الجمهورية 1923 إلى ذلك الحين. وتزامنت الجولة الثانية مع ذكرى انقلاب الجيش على مندريس. زار أردوغان، عشية الجولة الثانية، قبره وقبر معلمه الذي اختلف معه نجم الدين أربكان (أبو الحركة الإسلامية وأبو التصنيع العسكري في تركيا)، تماما كما زار قبر محمد الفاتح وأيا صوفيا، وكان آخر نشاط له زيارة ضريح الفاتح الأول الصحابي أبي أيوب الأنصاري الذي قتل في محاولة الفتح الأولى للقسطنطينية.
.
إنه التاريخ 29 /5 الفتح الثاني للقسطنطينية. هكذا دخل الانتخابات على أرضية تاريخٍ صلب، بدءا من الفاتح الأول الصحابي أبي أيوب الأنصاري إلى محمد الفاتح. يرى التّرك أحفاد الصحابة والفاتحين الذين يطرُقون أبواب المستقبل باقتدار. لا مستقبل لمن لا تاريخ له. قالوا “إنه الاقتصاد يا غبي”، ونقول” إنه التاريخ يا غبي”. .. ختم كلجدار أوغلو حملته الانتخابية في ضريح أتاتورك في أنقرة. وختم أردوغان حملته في مسجد أيا صوفيا في إسطنبول. إنه الصراع على الهوية والوجهة الاستراتيجية للدولة والمجتمع. وهذا ما حسم المعركة الانتخابية.
عودة إلى سرت، فخلاف الحركة الإسلامية التركية وأردوغان مع الأتاتوركية في أنهم يرون العروبة حرفا ولغة جزءا من نسيجهم الحضاري، والعرب أخوة بينهم وبين تركيا شراكة وجوار، وليسوا أعداء متخلفين وغادرين. زوجة أردوغان النافذة عربية، وهو يحبّ العرب ويتقن قراءة القرآن بعربيةٍ فصيحة، وهو مع القضايا العربية من فلسطين إلى انتفاضات الربيع العربية، وكانت الحرب على العراق أول اختبار له، ورفض بدهاء المشاركة في الحرب على العراق عام 2003. ولا أنسى كيف غرّر بإدارة بوش الابن التي كانت تتصرّف بعنجهيةٍ بعد “11 سبتمبر” عندما أوهمهم بأنه يريد المشاركة في الحرب، لكن يريد مقابل ذلك، أعدّ بروتوكولا من مائة صفحة تدفع بموجبها الإدارة الأميركية مساعدات نقدية وعسكرية وشراكة اقتصادية.. وفي النتيجة بفارق أصوات قليلة، رفض البرلمان التصويت على المشاركة في الحرب. وتفهم بوش القرار وقال “نحترم الديمقراطية التركية”. يومها التقى الأتراك الرئيس المصري حسني مبارك، وطالبوه بموقف عربي مماثل، لأن أميركا لن تستطيع الحرب بدون غطاء عربي، رد مبارك بأنه طلب منهم ألا يعيدوا هذا الكلام مرّة أخرى، محذّرا من تحدّي سطوة أميركا في تلك المرحلة.
سأل أردوغان الذي يعود إلى أصول جورجية (اللاز) والده يوما عن الهوية، وعن الفرق بينه وبين الترك الآخرين، فقال له “أنت مسلم”. هكذا يرى نفسه ويرى تركيا التي يشكّل الإسلام هويتها الجامعة وطنيا، وامتدادها مع العالمين العربي والإسلامي. وبالمناسبة، رغم عدائه التديّن، اعتبر أتاتورك الإسلام أساس الهوية، فهو أصلا يوناني من سالونيك، والإسلام ما جعله تركيًّا، وعندما رسمت الحدود بين تركيا واليونان هجرت القرى المسيحية إلى اليونان والمسلمة إلى تركيا.
أسّس نجم الدين أربكان الحركة الإسلامية التركية، وهو متصالح مع القومية التركية، وكان نائب رئيس وزراء في الحكومة التي اجتاحت قبرص. المشكلة في معاداة الدين جوهرا ومظاهر، وهو ما قد يتطلب تعديل مواد الدستور، ومنها المادة 420 التي تنصّ على أن التعليم وفق المبادئ الأتاتوركية. التعليم يؤله أتاتورك حرفيا. لديه تمثال في كل مدرسة وصور في كل صف. ويعلم الطالب “إنه ينظر إليك إنه يرعاك”، وهو نفسه ما يقال عن مؤسّس كوريا الشمالية بالمناسبة للطلاب. لولا أني سمعت من ابنة صديقي لما صدّقت، سألتها، وهي التي تتقن العربية بفضل عائلتها المتديّنة، عمّا يعنيه لها أتاتورك، فأجابت: “عندما تخطئ الطالبة تطلب منها المعلمة النظر في صورة أتاتورك، وتذكّر المبادئ التي علمها أياها وهو ينظر لها” … هذا إله، وليس رئيس دولة مدفوناً منذ عشرات السنين.
.
قومية أتاتورك معادية للتديّن، وللعرب والعثمانية، قومية أردوغان متصالحة معهم. وهذا يُظهر سفاهة حديث بشّار الأسد في القمّة العربية في جدّة عن “العثمانية والفكر الإخواني المنحرف”، فالعرب يتمدّدون في تركيا بشرا وثقافة أكثر مما تتمدّد فيهم، وأردوغان هو من احتضن السوريين الذين شرّدهم الأسد، وخاض الانتخابات على قاعدة الدفاع عنهم، ووصفهم بالوصف الديني التاريخي “نحن وهم مهاجرون وأنصار”، أما كلجدار أوغلو، حبيب بشّار واليسار الشبيح، فقد كان عماد حملته في الجولة الثانية الدعوة إلى طرد السوريين. والسؤال هنا: كيف دعم اليساريون والليبراليون وباقي الطرش في العالمين، العربي والغربي، كلجدار أوغلو، وبرنامجه الوحيد المعلن طرد العرب السوريين من تركيا؟ المفارقة، إن تحالف أردوغان، وعماده القوميون، وآخرهم المتطرّف سنان أوغان الذي يتبنّى سياسة محترمة مع السوريين. الثابت كراهية أردوغان، بمعزل عن المصالح العربية والمبادئ.
بعيدا عن حملات الإعلام الغربي وبعض العربي، كتبت “نيويوركر”، أشهر المجلات الأميركية “كانت حملة أردوغان بأكملها تدور حول التاريخ، وكيف كانت الحياة في تركيا قبل وصوله إلى السلطة، وكيف تغيّر ذلك.. وكيف تغيّر حزب الشعب الجمهوري. ومن بين المتدينين الذين يشتكون من الصدمات، قالوا: “لا، لا نصدق ذلك. الصدمة تبقينا سويًا ونريد الاستمرار في استخدامها كهويتنا”. قومية أردوغان مختلفة. في شكله الحالي، يقترح أن يكون الشباب الأتراك والحركة الجمهورية جزءًا من التقليد العثماني: كانوا جنودًا يخدمون سلطانهم، وكانوا رجال دين، وكانوا من المؤيدين السنة للخلافة العثمانية. على عكس القوميين من حزب الشعب الجمهوري الذين يقولون إن لدينا تاريخًا يمتد إلى قرن. يقول أردوغان، “حسنًا، لدينا تاريخ أطول بكثير، بدأ قبل ألف عام. ولا صراع بين الدين والعلمانية. ليس هناك صراع بين الدين والجنسية في شكل قوميتنا، على عكس حزب الشعب الجمهوري”.
أعلن أردوغان في خطاب الفوز، أن القسطنطينية فُتحت قبل 570 عاما، وأعلن الفاتح ميلادا جديدا، واليوم 29 مايو “ميلاد جديد”. إنه يرسم تركيا الجديدة في مئويتها الثانية مختلفة عن تركيا السلاطين ومختلفة عن تركيا أتاتورك. لو ظلت السلطنة قائمة لما وصل أردوغان إلى السلطة.
العربي الجديد