اليوم، وبعد مرور نحو أربع سنوات على خروج أوباما من الحكم، ومجيء نقيضه التام دونالد ترامب الى الرئاسة، إكتشفت أميركا فجأة الحاجة الى توفير الحماية للمدنيين السوريين، من الطيران الحربي، السوري والروسي، الذي يكاد يعلن أنه أنجز المهمة على أكمل وجه، ولم يبق لديه من مستشفيات ومستوصفات وأفران ومدارس ومخيمات نازحين وخوذ بيضاء، مرشحة للغارات الجوية، سوى في إدلب وريفها وأنحاء متفرقة من الشمال السوري.
"قانون قيصر" الذي تأخر إصداره تسع سنوات والذي يزعم أن جوهره حماية المدنيين السوريين، لا يرقى الى مستوى حظر الطيران الحربي، ولا يطمح الى توفير غطاء جوي لأي من المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام. هو يستخدم سلاح العقوبات المثير للجدل والشك من أجل منع المزيد من الغارات الجوية السورية والروسية، على المدنيين، كما جاء في نصه، ومن أجل ضمان وصول المساعدات الانسانية الدولية الى المحتاجين داخل سوريا.
لا يمكن التسليم بأن"قانون قيصر" صدر بدافع إنساني أو أخلاقي أميركي مستجد، أو بحرص أميركي مستحدث على وقف المذبحة السورية الكبرى. قد يكون نوعاً من المزايدة المألوفة من جانب ترامب على سلفه أوباما. الجوهر الأهم لذلك القانون الذي بدأ تنفيذه بالأمس، هو أنه مؤشر دقيق على أن الحوار الاميركي الروسي حول سوريا دخل في مرحلة متقدمة، يستخدم فيها الجانبان مختلف أوراقهما للتأثير على مجرياته وحصيلته النهائية. ولن يكون من المستبعد ان تصبح أرواح المدنيين السوريين التي يفترض حمايتها، ضحية الطيران الحربي الاميركي نفسه، إذا دعت الحاجة. ولن يكون الطيارون الاميركيون أرحم من الطيارين الروس..بدليل ما جرى في الرقة قبل عامين، وما يجري حتى اليوم في مناطق مختلفة من شمال شرق سوريا.
"قانون قيصر" ليس سوى دليلٍ على أن الحوار الاميركي الروسي جديٌ. وهو ينطلق من قاعدة رئيسية مفادها أن واشنطن لا تعمل على إخراج القوات الروسية من سوريا أو إنهاء النفوذ الروسي المستمر في سوريا منذ عقود طويلة، بخلاف ما صرح به قل اسبوعين المسؤول الاميركي الأخرق، ديفيد شينكر، ما إضطر وزارة الخارجية الاميركية الى النفي والتوضيح. هدف أميركا من الحوار تسريع خروج إيران ومليشياتها من سوريا، للحؤول دون صدام إيراني إسرائيلي مباشر. وطموحها هو إقناع الروس بالتخلي عن "عميلهم السيء" بشار الاسد، حتى ولو كان ذلك في صناديق الاقتراع او في عملية سياسية تدريجية..
جوهر "قانون قيصر" شطب بشار من الحوار لأنه مفتاح التوسع الايراني في سوريا ولبنان. توغله في الدم السوري يمنع إعادة تأهيله أو تغيير سلوكه.. أو فصله عن الراعي الايراني لنظامه ولحربه. وهو ما لا يعارضه الروس في الأصل، لكنهم يريدون كما يبدو حتى الآن ثمناً أكبر من التسليم الاميركي بوجودهم ونفوذهم في سوريا ، وحدها.
لن يُصرف "قانون قيصر" إلا على طاولة الحوار الاميركي الروسي المفتوحة..التي يتولى "الصرّافون" السوريون (واللبنانيون)، نقل وقائعها اليومية الى الجمهور، بطريقة مشوقة، وموجعة في آن.
--------
المدن