ولا ندري إن كان ذاك الهمجي قد سمع النصيحة وبطش بالبعوضة وأودى بمستقبله معها أم لا.
قرب دمشق واحة اسمها دوما، بين أشجار غوطتها وعلى مرمى أنهارها السبعة، يمر فيها نهر “ثورا” ومعه اثنتا عشرة قناة تتدفق من ينابيع دوما، وكان محمل كسوة الكعبة يرتفع على جمال ولدت ونشأت في دوما التي اشتهرت بها على مر العصور، كانت دوما ديرا مسيحيا بناه راهب حمل الاسم ذاته “دوما”، آخرون يقولون إنها اكتسبت اسمها من شجر الدوم ابن عم النخل، فيها سكن في العام 853 قبل الميلاد، أحد أنبياء اليهود وكان اسمه “الياس”، بعد أن تم نفيه إلى صيدا ثم إلى جوبر ثم إلى دوما التي في ترابها دفن، لتأتي في منتصف القرن العشرين بعثات أثرية تنقب عن ضريحه المدفون تحت الجامع الكبير، بعده وعلى مر آلاف السنين لجأت إلى دوما مئات الهجرات من مختلف اللاجئين الذين هربوا من اضطهاد عانوه في بلدانهم وعلى رأسهم جالية شهيرة في دوما، سكنت المنطقة التي تعرف بالشرقية إلى جانب حي الشمس وحي القصارنة، وهي جالية إيرانية قدمت في العام 1561 وعاشت واستوطنت دون أن يمنعها أحد، ليأتي بعدها البدو والفلسطينيون وسواهم.
وقد عرفت شخصيا طريق دوما الذي يمرّ عبر غابات الغوطة قادما من دمشق، في زياراتي لأقارب لي سكنوها بعد الحرب العالمية الثانية، وصاروا من أهلها، وتطبعوا بطباعها، فكنت أسترق السمع إلى قصصهم وحكاياتهم عن بساتينها وعالمها الذي لم يرحل بعد، دوما الآن تباد يوميا بالطيران والصواريخ من قبل جيش تسلّح بأموال دوما وخيراتها، وتحاصر من كل الجهات، ويمنع عنها الغذاء والدواء، ولم تنفعها كرامات الأنبياء والأولياء الصالحين المدفونين فيها، ولا استغاثات أهلها وأطفالها الذين تبث صورهم في كل مكان، إنسانها يفنى ويتشظى، بعد أن كان طريا كالعنب الدوماني، تجاعيد روحه كتجاعيد جذوع الكرمة الدومانية، رقيقا كزهر اللوز الذي كتب عنه محمود درويش والذي يزهر كل عام في دوما بلونيه الزجاجيين الأبيض والوردي.
لكن من يزجي نار هذه الحرب، يبني على الوعي ذاته الذي عاش طويلا في بلاد الشام، حين كانت الحداثة تعني أن يرفع من عرفوا بـ”الحوّاطين” المكلفين من الوالي أصواتهم بالقول: “لا يجوز بعد اليوم أن نقول للكافر يا كافر”، كما ظهر في عجائب العام 1877 بعد صدور الدستور العثماني، ليصبح العبث سيّدا أعلى للجميع.
فهل ستحط تلك البعوضة اللعينة في المكان المناسب كي يدرك الهمجي أن العنف ليس هو الحل الوحيد؟