نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

عن نافالني… بعد أربعين يوماً!

27/03/2024 - موفق نيربية

أوروبا والسير نحو «هاوية»...

18/03/2024 - سمير العيطة

( خيار صعب لأميركا والعالم )

18/03/2024 - عبدالوهاب بدرخان*

لماذا لم يسقط نظام الأسد؟

17/03/2024 - يمان نعمة


آرثر رامبو.. من شاعر شهير إلى تاجر سلاح





قرأت مرة أن أفراد إحدى القبائل الهندية في أمريكا اللاتينية يشيرون إلى الوراء حين يتحدثون عن المستقبل، قاصدين أن المستقبل، في جوهره، امتداد للماضي ونتيجة من نتائجه.


لعل هذه الفكرة تنطبق على الشاعر الفرنسي الشهير آرثر رامبو، أكثر مما تنطبق على شعراء كثيرين في هذا العالم.
 
ولد رامبو لأب يعمل نقيبا في الجيش الفرنسي، ممن خدموا في الجزائر وبقي فيها زمنا قيل إنه تعلم العربية خلاله وبدأ في ترجمة القرآن.

ولسبب غير مفهوم، اختار شابة كاثوليكية شديدة التزمت، وأنجبا خمسة أطفال، ثانيهم هو آرثر رامبو، المولود سنة 1854 بمدينة شارلويل الصغيرة.
 
ولأن النقيب الشاب كان مرحا محبا للحياة، لم يتحمل زوجته المتزمتة فهجر البيت. ويبدو أن التزمت كان سمة غالبة على الأم، فمنعت أطفالها من اللعب مع الأطفال الفقراء في الحي، على نقيض ما أراد الطفل رامبو، مع أنهم كانوا أسرة من الفقراء الذين فر عائلهم. 
 

كان رامبو يحب اللعب والمرح، وكانت أمه تتسلط على رغباته تلك. ومما يؤكد تلك النشأة المريرة أن شقيقه الأكبر هرب من البيت، فألهم رامبو أن يسلك مسلكه، حتى إنه احتذاه في محاولة الالتحاق بالجيش الفرنسي، الذي قبل أخاه ورفض رامبو لصغر سنه.
 
يبدو غريبا أن يبدأ شاعرٌ حياته بمحاولة الالتحاق بجيش استعماري، أقل ما يمكن وصمه به أنه يقتل بشرا أبرياء وينهب خيرات وطنهم.

من المرجح أن هذا العالم هو ما طبع شعر رامبو بالطابع الذي أذهل معاصريه، وكان سببا لفرادته، وهو طابع العنف.
 
كان ذلك نزوعا غير مألوف. كانت المدرسة البرناسية تزيح المدرسة الرومانسية عن عرش الشعر العالمي، والبرناسية كانت بالأساس ترفض ما في الرومانسية من إغراق في الذاتية واعتبار ذات الشاعر مركزا للرؤية الشعرية، كما كانت ترفض أيضا إسراف المدرسة الواقعية في التركيز على المكون الاجتماعي الخارج عن رؤية الشاعر.

أما شعر رامبو فكان جديدا طازجا، أسس لمرحلة أحدث، هي المدرسة الرمزية. وكان في شعره شيء من الغموض والتكثيف الذي يجعل جمله الشعرية تنشر إحساسا عاما ولا تطرح أفكارا محددة ومفهومة على نحو بسيط ومباشر، مع نزعة لتمجيد ذاته وإسباغ التفرد عليها، ويسيطر على ذلك كله إحساس عنيف، صادم بالرفض والتحدي.

قبل أن نتناول بعض شعره، يجدر بنا أن نتأمل تلك التجربة الفريدة: عاش رامبو 37 عاما، وتوقف عن كتابة الشعر في العشرين من عمره، أي أنه أبدع منجزه الشعري كله ما بين السادسة عشرة والعشرين عاما، وقد كتب أكثره في خضم تجربة غريبة من الحب المحرم.
 
 
فقد تورط في قصة حب مع الشاعر الفرنسي الشهير فيرلين، ولم يكن المجتمع الفرنسي وقتها يقبل المثلية الجنسية، وكانت العلاقة مضطربة حتى انتهت بأن أطلق فرلين رصاصتين على رامبو، طاشت إحداهما وأصابت الأخرى معصم يده.

نقل رامبو إلى المستشفى وفرلين إلى السجن، ثم بدا أن رامبو اتخذ الشعر خصما له، فهجره، سافر كثيرا، تاجر في أفريقيا وآسيا، بل ظل يسمي مرحلة كتابة الشعر "المرحلة الملعونة"، ويصف شعره بـ "القذارة" و"الخربشات"، احتقارا لما كتبه من قبل، مع أن هذا الذي كتبه ساهم في تغيير التوجه الشعري في العالم.

واتساقا مع الطابع العنيف لحياته، باع خلال مغامراته في أفريقيا قافلة سلاح لملك الحبشة، وهو ما يبدو غريبا تماما بمعاييرنا الحديثة ورؤيتنا للأدب والفن، لكنه رامبو الذي اتخذ من عدن مستقرا له، حين كانت مجرد مدينة صغيرة بدائية تماما إذا قورنت بأصغر مدينة في فرنسا. وانتهت مغامراته الشاقة بسقوطه صريعا أمام السرطان في السابعة والثلاثين من العمر.
 

وقد حدا ذلك بعض النقاد إلى الاعتقاد بأن الهالة التي أحاطت برامبو كانت نتاج حياته وموته الحافلين بالتمرد أكثر مما كانت بسبب روعة شعره.

من الغريب حقا أن رامبو عاش النصف الثاني من حياته مناقضا ما فعله خلال النصف الأول منها، عاد إلى أمه، واكتشف محبتها له، وجمع مالا جيدا، واستعاد موقعه من الأسرة، وقطع علاقته تماما مع فرلين.
 
بدا أنه ينتقم من رامبو القديم الذي عذبه بتمرده. لعل ماضيه هو ما يفسر ذلك كله. يقول رامبو في قصيدته "المركب النشوان" (ترجمة عبد الهادي السايح): 
وانطلقتُ
ممتطيا سيولاً لا تبالي..
ما عدتُ أحس بالحبال تتجاذبني
يشدها عمالُ المرفأ
كانوا هناك
وقد اتخذهم بعضُ أوباش الهنود الحمر أهدافا
بعدما قيدوهم عراةً إلى أعمدة الألوان..
لم أكترث للطاقم
..عندما انتهى ذلك الشغب وغاب العمال معه عن ناظري
تركتني السيول أهوي إلى حيث أشاء..
بين تلاطم الأمواج الغاضبة
جريتُ ذاك الشتاءَ
بعناد أعتى من عناد الأطفال،
...وكأخفَّ من سدادة
رقصتُ فوق الأمواج،
تلك الأيدي الأبدية التي تدحرج ضحاياها، كما يقال،
...منذ ذلك الحين وأنا أستحم في قصيدةِ البحر
تـتخللها النجومُ،
حليبية اللونِ،
تلتهم البقعَ اللازوردية المائلة إلى الخضرة
أينَ ترى أحيانا
غريقا شاردَ الذهن
تلفه هالة صفراءُ
مُمتـقعة،
يرسب إلى القاع
وهو مسرور..
...اتبعتُ لأشهرٍ كاملة
الأمواجَ الهائجة
وهي تجتاح أرصفة الصخور في جنون
كقطعان البقر الهستيرية،
... شاهدتُ انهيارَ المياه وسْط هدأةِ العباب
والمسافاتِ البعيدة ترتمي إلى أعماق الهاوية،
أنهار الجليد، شموس فضية، أمواج منْ لؤلؤ، سماوات منْ شواظ
حطام سفن مشوهة..في أعماق الخلجان البنية،
... وددت لو أري الأطفال تلك الحيتان
حيتانَ الموجة الزرقاء،
تلك الحيتان الذهبية، الصادحة..

رامبو، إذن، يؤسس شعره على ذلك النزوع إلى العنف ويتخذه منطلقا لرؤيته الشعرية. في هذا النص، ثمة افتخار غريب بقوة خارقة، يعبر عنها على نحو صريح مثل امتطاء السيول التي لا تبالي بأحد لقوتها، وعدم المبالاة بصراعات البشر واقتتالهم، بل حتى بحيواتهم، فالهنود الحمر يتسلون بقتل عمال المرفأ لأسباب نجهلها، كما أنه يلهو بين الأمواج المتلاطمة الغاضبة، التي يشبّهها بالأيدي الأبدية التي تدحرج ضحاياها نحو قاع البحر المخيف، ومع ذلك يبلغ به العنف أن يرقص بينها بخفة سدادة من الفلين؛ تلك الصغيرة الخفيفة الضئيلة، التي تنتصر على الموج بقدرتها على الطفو مهما كان الموج غاضبا.
 

تفور القصيدة بمعاني الفتك والعنف والاقتدار، أحيانا يبدو ذلك طفوليا نسبيا، فهو خارق فوق كل خارق.. ويبدو أنه مولع بالأمواج الهائجة المضطربة أكثر من غيرها، فهي الدالّ الأقوى على العنف الباطش، الذي يحقق ذاته الشعرية بالانتصار عليه، فهو يتبع ذلك الموج حيث يجتاح أرصفة الصخور بجنون يستدعي صورة قطيع الأبقار الخائفة المضطربة، كما يعاين العجائب مثل أنهار الجليد وشموس الفضة وأمواج اللؤلؤ، وصولا إلى حطام السفن الغارقة في الأعماق السحيقة، وهناك يجد الشاعر لنفسه متسعا ليقول: "وددتُ لو أُري الأطفال تلك الحيتان، حيتان الموجة الزرقاء"، كأنه يتمشى في حديقة حيوان عامة!
لعل هذه القدرة على اقتراف العنف الشعري من أكثر ما سحرت مريديه وعاشقي شعره.
---------
عربي21- 

عمر عبد العزيز
السبت 2 يناير 2021