تعج وكالات الأنباء ومواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت بصور الأطفال الذين يخوضون بالوحول تحت المطر والبرد، وبصور العائلات التي تنقل بعض ممتلكاتها الفقيرة وهي تفر من القصف الروسي مهجّرة من قراها، ومهجّرة للمرة الثانية أو الثالثة من بيوتها إلى مخيمات مؤقتة، يتم قصفها أيضًا ليهاجر أهلها إلى مخيمات أخرى. ولعل صور المهجرين والمطاردين السوريين اليوم هي أكبر تجسيد حديث لضحايا أوشفيتز الذين تم سَوقهم من بيوتهم ومن معسكر تعذيب إلى آخر، حتى وصلوا إلى الموت!!
 
بنت ألمانيا النازية معسكر أوشفيتز ونفذت فيه مذابح مشينة ضد اليهود، ونكّلت بهم وبعائلاتهم وتفننت باستخدام تقنيات المذابح الجماعية، كأفران الغاز والتجويع حتى الموت، باعتبارهم لا يتمتعون بالحقوق الإنسانية، تمامًا كما يفعل الروس بالسوريين اليوم، فهم لم يوفروا الأسلحة الحديثة ولا حتى الغازات الكيماوية، ويتم بث جرائمهم بالديجيتال، كل ذلك من أجل إخماد الثورة السورية وإعادة السوريين إلى القبول بفاشية نظام الأسد والاستمرار بقبول التنكيل بهم وقتل أولادهم تحت التعذيب، بحجة محاربة الغرب الذي لا يحترم روسيا.
الاحتفال بتحرير أوشفيتز يتم اليوم، وبعد خمس وسبعين سنة، على مقربة من أوشفيتز السوري الذي تنظمه روسيا وتستعمل فيه كل قدراتها الحربية من أجل تنفيذه على أكمل وجه من الوحشية. فالعالم المتمدن الذي أصدر لوائح حقوق الإنسان يشعر بالخزي من قيام معسكر أوشفيتز بجرائمه، بينما يتجاهل الضحايا السوريين الذين يتم التنكيل بهم على بعد مئات قليلة من الكيلومترات عن احتفالية تحرير المعسكر.
أوشفيتز السوري فاقت مدته اليوم مدة أوشفيتز اليهودي، إذ يمر اليوم حوالي تسع سنوات على بدء المجازر السورية التي بدأها النظام أولًا، ومن ثم شارك فيها الإيرانيون وساندها “الفيتو” الروسي، ولكن روسيا سرعان ما صارت شريكًا في القتل العلني للسوريين منذ أيلول عام 2015، وصار بوتين ينفذ أساليبه النازية بولع وإصرار على سحق السوريين، تمامًا مثلما فعل النازيون الألمان ضد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية.
ورغم مشاركة الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو بتأييد بقاء بشار الأسد والتنسيق مع الروس للحفاظ على نظامه الفاشي، فإننا نتعاطف مع ضحايا أوشفيتز الأبرياء الذين تمت معاملتهم كأشياء، مثل معاملة السوريين، وتم تجاهل الحقوق الإنسانية لهم، فالنظام الروسي استوعب طرائق النازيين الألمان وهو يعيد تنفيذها واستعمالها مثلما يستعمل بقايا أسلحته المتراكمة في مستودعاته القديمة لتدمير سوريا وتهجير شعبها ولتنفيذ الأوشفيتز السوري بالديجيتال.
لقد تم تدمير معظم المدن السورية وتم تشتيت نصف سكانها وتهجيرهم داخل سوريا وخارجها من أجل أن تقوم روسيا بالتفاوض على الحصول على قواعد عسكرية في سوريا، أو للتفاوض على قضاياها وتثبيت نظامها الذي يفتقر إلى أبسط فهم لحقوق الإنسان السوري، بل إن الوسائل الإعلامية والدبلوماسية الطائفية كان لها أثر مدمّر أيضًا على السوريين، وخاصة في تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الذي أعلن استبعاد الأغلبية السنية من حكم سوريا مهما كان الثمن!
لم يتكرم رؤساء العالم الأربعون الذين حضروا، في 23 من كانون الثاني الحالي، للاحتفال بتحرير أوشفيتز حتى بالإيعاز إلى الروس بوقف القصف ضد المدنيين السوريين في أثناء الاحتفال ولو لعدة ساعات! وإنما انشغل العالم بمشادة كلامية بعد الاحتفالية بين الرئيس الفرنسي وشرطي إسرائيلي أكثر من انشغاله بالخمسة آلاف سوري الذين تم رميهم في البراري القارسة ذلك اليوم!
هل أصبح العالم أقل انسانية وهو ينظر إلى المسلسل الروسي في سوريا، الذي لا يكاد أن ينتهي منذ سنوات من القصف والتهجير والإشاعات الإعلامية ضد السوريين، حيث يتم تصنيف الناس الرافضين للفاشية الأسدية كإرهابيين، وبالتالي يجوز سلبهم إنسانيتهم وإباحة دمهم وتعذيبهم والتنكيل بأطفالهم في البراري.
أوشفيتز السوري لن يجعل السوريين مؤمنين بالفاشية الأسدية أو الإيرانية، ولا بالنازية الروسية، تمامًا مثلما فشل أوشفيتز اليهودي بحمل اليهود على حب النازية الألمانية، أو القبول بها أو الكف عن التفكير بإنسانيتهم وبعائلاتهم، ولم يوقف تضحياتهم العظيمة من أجل إعادة انبعاثهم ونشر فكر محاربة النازية، ولعل “حنة أرنت” هي واحدة من آلاف كثيرة من الكتّاب والمفكرين اليهود الذين تابعوا جهودهم من أجل إسقاط النازية والكشف عن جرائمها وتحليل عواقبها.
والسوريون أيضًا لن يصمتوا ولن يسامحوا من يقوم بالتنكيل بهم مهما كانت قوته، ومهما كانت وسائل إعلامه مدججة بالأكاذيب والادعاءات، فالسوريون قادمون وسيجبرون العالم على اعتبار المذابح السورية كجرائم ضد الإنسانية، وأن يقيموا لها المتاحف، والمؤسسات القانونية التي تلاحق الضالعين بها عبر العالم، ولن يتركوا كل من شارك بهذا الأوشفيتز السوري أن يأمن على مصالحه.. ولا حتى على حياته!