نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

حزب حاكم جديد في سورية

08/06/2025 - بشير البكر

المفتي قبلان صاحب الرؤية

02/06/2025 - يوسف بزي

المثقف من قرامشي إلى «تويتر»

24/05/2025 - د. عبدالله الغذامي :

التانغو" فوق حطام المنطقة

22/05/2025 - عالية منصور

واقع الديمقراطية في سورية الجديدة

09/05/2025 - مضر رياض الدبس

(سوريا بين حرب أهلية ومشاريع تقسيم؟)

05/05/2025 - عبدالوهاب بدرخان


التفجيرالثقافي.. يوميات إيرانية 1




تعلمت إيران أن صناعة الفوضى في الوطن العربي هي الطريق الوحيد لها كي تزرع خططها واستراتيجياتها التوسعية وتحتل أربع عواصم وتتوعد بالمزيد، وبعد نشوء الفوضى تأتي اليد الإيرانية الناعمة تجوب بلدان العرب؛ لتقترح قيام تحالف لمحاربة الإرهاب



ما من مدونة ثقافية أو ذاكرة ثقافية بشرية إلا وتحمل من ضمن مكوناتها الأساسية منظومات من التنوع والتعدد تختزنها ذاكرة الثقافة بعامة، مجتمعات وأفرادا، وتشهد عليها النصوص المتوارثة بكل صيغها شعرا وحكايات وأمثالا وقصصا ورمزيات، وتظل هذه مصادر مستمرة، لا تسكن الذاكرة فحسب، بل إنها تغذي السلوك حسب حاجة الموقف التي تقتضي استدعاء شيء من المخزن الثقافي، وتتكشف هذه المواقف في إعادات يومية حين يجري الاستشهاد ببيت من الشعر أو مثل أو قصة لسلف مضى، وهي استشهادات ليست لعرض قوة الذاكرة بل هي استعانة بتعبير ينوب عنك في التعبير عن الحال الماثلة، وتعتمد على نوعية الحالة حيث يجري استدعاء النص أو الحدث لتوظيفه توظيفا لحظويا يتلاءم مع الموقف، وهذا أمر يجري لنا كأفراد في كل شأن يواجهنا وتسعفنا الذاكرة بمد فوري من المخزون.
ذاك أمر هين وتلقائي، ولكن الأخطر منه هو النوع الذي يستدعي ذاكرة جماعية وليس موقفا فرديا، وإذا حدث أن ذاكرة جماعية تحركت فإن عواقبها وخيمة جدا؛ لأنها عادة لا تحضر حسب ترتيب عقلي ولا حسب مقاس فردي، مما يعني أن السيطرة عليها ومحاولة توجيهها ليستا بيد فرد أو أفراد، وسيظهر أنها ليست بيد أي قوة عاقلة من أي نوع، لا قوة الحكومات ولا قوة المخططين والمحللين ولا قوة الطيبين الناصحين.
وليس للناقد القارئ لمثل هذه الحالات إلا أن يسأل: ما الذي يجعل مخزونا معينا يخرج من بطون الكتب، ومن الذاكرة الساكنة حتى ليصبح قانونا نسقيا يسيطر على الحال الثقافية برمتها؟!
وكيف به يتحرك من بين سائر العناصر الأخرى التي تجاوره في الذاكرة العامة نفسها، كأن تكون الذاكرة مكتنزة بقيم التسامح والمحبة والتعايش، وتملك رصيدا ثريا في هذه كلها، من نصوص ومتون ومواقف وسير، من واقع معيش تعيشه لقرون، غير أن عنصرا مختلفا يتحرك في وقت معين ويظهر أمامك أنه عنصر نشاز وليس تصالحيا ولا تعايشيا ويحمل صيغا من التوتر والكراهية، مخالفا لكل القيم الإنسانية التي تعرفها عن ثقافتك ومجتمعك، حتى لترى ثقافتك تنقلب رأسا على عقب وما كان سويا يصبح أعوج وما كان طبيعيا يصبح نشازا، وما كان مسكوتا عنه أو مغفولا عنه يصبح أمام ناظرك كل لحظة ولحظة!
تتحرك المخبوءات من مخازنها وتخرج من بطون كتبها حسب شروط هي:
أ- المحفز الظرفي، أي أن يستجد ظرف غير الظروف المعتادة، ويكون لهذا الظرف قوة مادية تمس معاش الناس أو نظام تفكيرهم، مع علاقات بعضهم ببعض، كأن تكتشف أن جارك شرير وكنت تعده خيرا وحينها تتغير كل أنظمة علاقاتك معه وعلاقاته معك، وكل ما كان طبيعيا بينك وبينه يصبح موشوما بالضرورة الظرفية حتى ولو دعاك لفنجان شاي. وهذا نوع  من الفيروسات الثقافية التي تطرأ على الجسد الثقافي فترفع درجة حرارته وتصيبه بمرض لم يتعود عليه، وسيبدو أن كل المناعات القديمة تتراجع حتى ليضعف الجسد عن مقاومة الفيروس، وبالتالي يستسلم له ويتركه يقود الحدث دون قدرة على رد شكيمته أو تصريف وجهته، ولقد تحدث كثيرون من بعد الحرب اللبنانية في السبعينات والثمانينات وكانوا يقولون إنهم كانوا يندفعون للتحارب دون أدنى تساؤل أو تفكر حتى لكأن التحارب شرط للبقاء، ويبقى الجار يحارب جاره لأنه لو ترك جاره حيا لمات هو، وسيموت أحدهما كشرط للعيش الذي اختل ولم يعد التعايش أن يبقى جارك لتبقى أنت مثله.
هذه حالة الظرف الفيروسي التي تصيب الثقافات في بعض الحقب، وقد حدث هذا مع كل الحروب الأهلية في أوروبا وآخرها إيرلندا الشمالية ودول البلقان، مثلما حدث في لبنان.
ب ـ أن يكون المخزون عند فئات البيئة الثقافية يحمل صيغا متناقضة، ولكن تناقضها كان ساكنا وساكتا، ومن ثم كان يمر عبر المدونات والخطابات المحلية والفردية أو الفئوية المؤطرة، لكنه يظل مؤطرا بحد يحده، ولا يجرؤ على التحرك العلني؛ لأن تحركه يتناقض مع الروح العامة للمعاش العام، ولا يتفق مع قانون التعايش والتجاور والتسالم بين الفئات، ولكن هذا الساكن غير المتجانس يستسلم للمحفز الظرفي بحيث يشرع في استحضار اختلافاته وتمايزاته، وينسى التوافقات التي كانت واقعية حتى لكأنها لم تك تلقائية، ومع ضغط المحفز الظرفي تصبح مضطربة وتشعر بأنها لم تعد قادرة على السكوت، وكأن السكوت السابق كان قسريا، وهو لم يك قسريا ولكن الفيروس الثقافي يشبه الفيروس الجسدي، كلاهما مرضي ويحول كل ما هو صحي إلى حالة مرضية وتزداد حسب تزايد المحفز الظرفي وتتراجع حسب تراجعه.
وهذا يفسر علاقة الثقافة العربية مع الثورة الخمينية، حيث درجات التوتر حسب ترمومتر التحفز الظرفي، ودرجات العلاقات بين طهران الخمينية وعواصم العرب، فإذا جرت تفجيرات في الحرم (الثمانينات) والكويت والبحرين ولبنان تحرك الحافز الظرفي الفيروسي، وإذا هدأت الحال، في أواخر الثمانينات، دخل الظرف المحفز في نوع من التهدئة الثقافية، وسيعود حين يجري القول عن احتلال أربع عواصم عربية وعن هلال شيعي، وعن خطط إرهابية في الأردن والبحرين والكويت (جرى كشف هذه الخطط هذا العام 2015 )، وهو ما يحرك مخازن الثقافة بين الأطراف كلها لتجر كل ما في الكتب والمدونات ليشرع كل طرف (الشيعي والسني معا) بكشف أسوأ ما في مخزونه عن الطرف الآخر، وسيكون ذلك مشهدا يوميا في الشوارع والفضائيات وفي نشرات الأخبار، وهذه هي حالة (التفجير الثقافي)، وهي حالة مرضية تمرض بها أي ثقافة تتعرض لمثل هذا الفيروس وتضرب به في أهم مكوناتها الوطنية، كما لو تسمع مثلا أن ألمانيا تعلن تصدير "الهتلرية" وتتباهى أنها تحتل أربع عواصم أوروبية، وأنها تصنع هلالا هتلريا وسط أوروبا يؤدي تحية الرايخ. كما هي حالتنا اليوم مع هلال تم تصنيعه وسط كيان الأمة ليشق صفوفها.
تمر ثقافتنا اليوم بمثال هو من أسوأ أمثلة التاريخ الثقافي لنا، ولا يشبه أي ظرف ثقافي سابق، وذلك بسبب عولمة الصورة والشاشة وإن كانت الحوادث المشابهة في الماضي تظل محصورة في محطيها المكاني، ولا تشمل سائر مكونات الأمة إلا أن ثقافة الصورة اليوم تفتح مجال الاستقبال والتأثر حتى ليصبح الحدث كونيا بما أن الصورة تعممه وتضعه وسط بؤبؤ كل عين باصرة، ويدخل على كل ذاكرة ويحرك أقسى ما فيها من علاقة الذات والآخر، وتصبح كل الصور عدوانية وكل الكلمات متشنجة عند الأطراف كلها.
وحسب تواريخ الأحداث فإن وضعنا هذا لم يظهر إلا بعد 1979 لحظة ثورة كانت تبشر بخير ونصر عظيم، ثم صارت تتقلب يوما بعد يوم حتى احتلت أربع عواصم عربية، وصارت ترسل المتفجرات والمفجرين إلى بلدان العرب، ومنها تفجرت الثقافة وأظهرت أقبح ما فيها.
ج- من الواضح أن إيران وصلت إلى قناعة مسلكية في علاقتها مع جوارها توازن بها بين مطمحها في تصدير الثورة وبين سياستها الخارجية، أي أن توازن بين يد ناعمة تطبع عليها بسمة تسويقية وبين يد خشنة تدبر أمرها بليل، وقد سبق لإيران أن حاولت تصدير ثورتها عبر الحروب وحدثت حربها مع العراق لثمان سنوات متصلة، ولكنها انتهت بفشل مشروع تصدير الثورة، ومن هنا اختارت طريقا مختلفا اكتشفت معه أن تفجير الأوضاع في الوطن العربي يسهل لها تصدير ثورتها، وكان الوضع اللبناني هو أول الأمثلة ثم جاءتها سورية بشار الأسد وعززت مطمحها، وصارت تفجر الأوضاع عبر وسطاء سهلوا لها المهمة، ثم تمادت في اللعبة وصارت تهيئ الأجواء لإحداث فوضويات أخرى، فأرسلت متفجرات إلى الأردن وإلى الكويت والبحرين، وتكشف بعضها قبل لحظة الأصفار. والمتكشف يشير إلى أمثلة أخرى له لم تتكشف.
د- يضاف إلى ذاك عنصر آخر يتمم الخطة ويعطي فرصا لفوضويات ممكنة، وذلك بأن تسمح إيران في صناعة بيئة مهيأة لتوارد كل راغب في عمل تفجيري من تنظيمات تتعطش إلى مثل هذه الفرص، وإذا لاحت لها فرجة من فرصة تحركت نحوها؛ ولهذا جرت تهيئة الظروف لمثل داعش لكي تتحرك وتؤسس لها دولة في سورية والعراق، وكان من الجلي أن معظم عناصر داعش كانوا في سجون العراق وسورية، ثم حدث شيء ما بتخطيط ليلي ما وهرب المساجين بالمئات متجاوزين أكثر كتائب الحراسة شراسة وجبروتا، وتأخذهم سيارات من وسط الشوارع، وتعبر بهم كل نقاط الحراسة والتفتيش، وبعد ساعات يجري إعلان دولة الهاربين من السجون المحصنة المنيعة.
تلك خطط هدفها صناعة بيئة متوترة تنشأ فيها منظمات تصنع الفوضى وقد تعلمت إيران أن صناعة الفوضى في الوطن العربي هي الطريق الوحيد لها لكي تزرع خططها واستراتيجياتها التوسعية وتحتل أربع عواصم وتتوعد بالمزيد، وبعد نشوء الفوضى تأتي اليد الإيرانية الناعمة تجوب بلدان العرب لتقترح قيام تحالف لمحاربة الإرهاب، وهنا تنفذ الخطة المرسومة بوجهيها (اليد الخفية واليد الناعمة)، ويتم عبرهما تصدير الثورة بأدق خطاها.
هنا نكون على مواجهة مع حال ثقافية عربية لم تحدث قط وهي حالة "التفجير الثقافي"، حيث يتفجر كل شيء بدءا من النفوس إلى المصطلحات وإلى علاقات البشر بالبشر، وفي المقالات المقبلة وقفات على مظاهر هذا التفجير الثقافي ومسمياته.
-------------------
الوطن اونلاين
  

د . عبدالله الغذامي
الاحد 30 غشت 2015