كانت سماء العالم العربي ملبدة بالغيوم السوداء، من أقصى المغرب إلى العراق. وكنت متأكداً من أن الإصرار على التمسك بمعايير السلوك الإقصائي والانفرادي التي أخذت تفرض نفسها وتشقّ المجتمع والنخبة السياسية الفكرية بين قطبين، لا يمكن التواصل بينهما بأي شكل، إسلاميين وعلمانيين، سوف يقود، لا محالة، إلى كارثة، ويغلق الطريق على أي أملٍ بالإصلاح. وكنت أعتقد أن غاية الحوار أن يستبدل الاستقطاب العقائدي والهوياتي السائد، الذي لا يمكن أن يكون له أي حل سوى المواجهة الحدية، باستقطاب سياسي، يعيد توزيع القوى بشكل مختلف، ويفتح باباً للخروج من المواجهة الحتمية، يميز بين جبهتين، ديمقراطية تضم جميع القوى المؤمنة بالحوار والتعاون لبناء دولةٍ تمثل الشعب، وتتفاعل مع تطلعاته ولديها الرؤية والقدرة على تحقيقها، وجبهة القوى المؤيدة للاستبداد والمرتبطة به، دينياً كان أم سياسياً، على أمل أن ينجح هذا الفرز في جذب القسم الأكبر من قوى الاحتجاج الاجتماعي، المطالب بالتغيير، وأن يجعل هذا التغيير ذا منحى ديمقراطي، يمهد لبناء عقد اجتماعي يضع المبادئ وقواعد التنافس الديمقراطي، بديلاً عن التصفية المتبادلة والانتحار الذي خبرته في ما بعد مجتمعاتٌ عربية عديدة. وكان الهدف أيضاً تشجيع الإسلاميين على تبني خيار الديمقراطية في مقابل الحصول على الشرعية والاعتراف بهم طرفاً مؤسساً أو مشاركاً في تأسيس عهد الحرية الجديد.
لكن خيار المواجهة هو الذي تغلب، في النهاية، على خيار الحوار، وقضي عليه قبل أن يبدأ في أغلب الأقطار العربية. ولا تزال مجتمعات العالم العربي تعيش، منذ ذلك الوقت، أي منذ  التسعينيات على الأقل، في مناخ المواجهات الدموية التي دفع إليها قطع الحوار ورفضه بين الأطراف، والذي كلف الجزائر آلاف الضحايا، قبل أن يدفع إلى تفجر ثورات الربيع العربي، وما تلاها من إطلاق دورة الحروب الأهلية والمذهبية التي اختتمت في سورية بحرب إبادة جماعية، استخدمت فيها السلطة وحلفاؤها جميع وسائل حرب الدمار الشامل، وقضى فيها ملايين البشر، وكادت تُمحى فيها من الوجود قرىً، بل مدن بأكملها. ولم يكن لهذا الانتحار والدمار العربيين سبب آخر سوى رفض الحوار، واستبعاد النظم الطغيانية القائمة، والنخب التي امتلكت الدولة بواسطتها، أي مسعىً أو وسيلة للتغيير وتسهيل الانتقال السياسي، الذي لم يعد من الممكن تأجيله إلى وقت أبعد، والذي يكمن جوهره في الاعتراف بالشعب، وحقوقه الطبيعية في المشاركة الفعلية في الحياة السياسية، والإشراف على آليات تسيير الدولة وآلة العنف التي احتكرتها النخب الحاكمة، وتحولت إلى أداة خاصة في يدها، تستخدمها لإخضاع الناس وإذلالهم وتجريدهم من حقوقهم السياسية والمدنية.
كانت النظم الحاكمة التي استمرأت الانفراد بالسلطة، والاستفراد بموارد البلاد، مصرّةً على ترسيخ الانقسام العمودي بين إسلاميين وعلمانيين، كي تبقى الحرب العقائدية مشتعلةً، وتحول دون بروز أو تشكل أي قطبٍ شعبي يهدّد وجودها. وقد عملت كل ما تستطيع من أجل وأد الحوار، وراهنت، في كل النظم العربية، على الحرب، ليس للقضاء على قوة الاحتجاج الاجتماعي فحسب، وإنما لتقسيم الشعب وشرذمته وكسر إرادته أيضاً، ووضع أي تغيير محتمل في طريق مسدود. وهذا ما حصل بالفعل، وما تحول إلى استراتيجية نموذجية في سعي النظم العربية إلى إجهاض الحركة الديمقراطية، حتى لو كان الثمن توطن بؤر الصراع والحرب في مجتمعاتنا.
للأسف، انحاز مثقفون ديمقراطيون، أو كان من المفروض أن يكونوا كذلك، للحرب على حساب الحوار، وراهنوا على قبضة النظم الاستبدادية القوية، بغرض التخلص من خصومهم ومنافسيهم السياسيين والأيديولوجيين، واعتقدوا أن النظم الاستبدادية سوف تتعاون معهم في ما بعد من أجل الإصلاح، وربما تكون لديهم فرصة للحلول محلها بعد تطهير المسرح من الإسلاميين المناوئين. كانت النتيجة فتح دورة حروبٍ أهلية كامنة، ومشتعلة على امتداد الجغرافية العربية، واستنفاد موارد البلاد في المعارك الدموية، وخسارة عقود عديدة، كان من المفروض أن تكرس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتهجير الأطر والقوى الحية المنتجة والمبدعة والمفكرة خارج البلاد. وكان ثمن قطع الطريق بالقوة، وبأي تكلفة كانت، على أي خيار ديمقراطي، تصحير الحياة السياسية، وتجفيف ينابيع الوطنية وخنق القوى الحية العلمانية وغير العلمانية، وتحويل الإسلاميين، أو جزء مهم منهم، إلى غلاة ومتطرفين ومتمردين. وأخيراً دفع البلاد إلى الاستيطان المديد في الفوضى السياسية والديكتاتوريات المقيتة مما تعرفه معظم الشعوب العربية اليوم.
هكذا فقدنا كل شيء، الديمقراطية والعلمانية والإسلام والحداثة، والتراث والوافد معاً، وأصبحنا في فراغٍ قاتل، واضطراب شامل، وخراب نفسي وإنساني لا ضفاف له، وتحولت جغرافيتنا العربية إلى مسرح لتنافس القوى الدولية على الموارد والنفوذ، وتكرّست في العلاقات الدولية والمخيلة الشعبية العالمية موطناً رسمياً لحركات التطرّف، وساحة مركزية لحروب الإرهاب، الحقيقية منها والمصطنعة، لكن دائماً القاتلة والمدمرة والتخريبية.
انحياز النخب المثقفة والواعية، منذ التسعينيات، إلى جانب خيار الحرب والمواجهة، ورفضها الحوار أو استهتارها به، دلّ على أنه لم يكن لدينا بالفعل خيار ديمقراطي، لا عند الإسلاميين الذين كانوا يعيشون سكرة النصر مع تزايد أعداد الجمهور الذي يتطلع إليهم باعتبارهم حصان التغيير الأكيد، ولا عند العلمانيين الذين كانوا يخشون دخول عموم جمهور الشعب إلى خشبة المسرح، بمقدار ما كانت تخشى دخوله البرجوازية الجديدة الرثة، المكونة من مزيجٍ من بيروقراطيين وعسكريين ورجال أعمال، لا مواهب لديهم سوى تفاهمهم على نهب موارد الدولة، وتقاسم غنائمها، من دون رادع من وطنية أو ضمير.
خُدع الإسلاميون بقوة جماهيريتهم، لأنهم فسّروها تأييداً لهم، وتعلقاً بأفكارهم ومصادقةً على قرارهم بمصادرة إرادة الناخبين سلفاً باسم الدين، ولم يكن الأمر كذلك. وما كان الاصطفاف الجماهيري وراء الحركات الإسلامية، في أي مكان، إيماناً بمشاريعهم الخيالية، وإنما لما أبدوه من جرأة على مناهضة النظم والوقوف في وجهها، وما جسّدوه من إرادة الاحتجاج والاعتراض، والوقوف في مقدمة التظاهرات وقيادة الاحتجاجات ضد الظلم وعدم الاكتراث. كان الجمهور الغاضب والمتألم والمقهور بحاجةٍ إلى قيادة جريئة وذات صدقية، أي بعيدةٍ عن الانتهازية والرخص والارتزاق التي تحولت إليها معظم النخب القديمة اليسارية والقومية التي التحقت، بشكلٍ أو آخر، بالنظم الاستقلالية، وعاشت في كنفها واستفادت من أفضالها.
وخُدع العلمانيون، أو من يعتقدون أنهم كذلك، لاعتقادهم أن الاصطفاف وراء السلطة العسكرية والمافيوزية سوف يترك لهم فسحةً من الحرية السياسية، أو على الأقل المدنية، تحفظ حقهم في ممارسة عاداتهم والعيش بأمان، في ما يمكن تسميته مربع الحداثة الآمنة والمشروعة، أو المربع الحداثي الآمن، في مجتمعاتٍ تتراجع فيها باستمرار عتبة التسامح والقبول بالتعددية والاختلاف، مع التدهور السريع لشروط المعيشة، والانكفاء نحو أنماط الاستهلاك التقليدية، ذات التكلفة الرخيصة، ما شكل من نموذج الاستهلاك الحديث الذي تطور عند الطبقة الوسطى، والعليا بشكل خاص، وبشكل أكثر فأكثر، مجالاً للتمايز والتمييز الاجتماعيين، وعقبة أمام أي تواصلٍ ممكن بين فئات المجتمع الواحد. وتحول إلى شعورٍ بالموت البطيء والإدانة الأبدية عند جماهير تتكدّس أكثر فأكثر في الأحياء المفقرة والمظلمة، وبين مهجّري الأرياف المسحوقة، والعاطلين الدائمين عن العمل، والمرميين من دون أمل على قارعة طريق الحداثة التمييزية إلى حد العنصرية. وبعكس ما كان يعتقده المدافعون عن النظم الديكتاتورية كجدار قوي أمام صعود النظم الإسلامية، لم تحقق الحرب السياسية أحلامهم. وما كان متوقعاً أن تخوض الطبقة الحاكمة حرباً أهلية دموية، بكل ما تعنيه من مخاطرة، من أجل أن تهدي نتائج انتصارها لمنافسيها من الطبقات الوسطى، أو النخب الثقافية والاجتماعية الضعيفة التي تحتمي بها. بل إن ما حصل كان عكس ذلك تماماً، فبدل أن تؤدي الحرب ضد الخصوم الإسلاميين إلى توسيع هامش المبادرة والمشاركة السياسيين للنخب الحديثة شجعت على إلغائه، بمقدار ما قوّى نجاح النظم في كسر حركات الاحتجاج الشعبية، وتفكيك نواتها التنظيمية المتمثلة في الجماعات الإسلاموية، شوكة الطغم الحاكمة في مواجهة المثقفين والمعارضين من كل الاتجاهات، بعد أن ضعفت حاجتها إلى خدمات المثقفين لمواجهة الحركات الإسلامية، وصارت أكثر ميلاً إلى التخلي عنهم وتركهم لمصيرهم. هكذا تقلص بشكل أكبر هامش تسامح النظام القائم، مع المثقفين ومن شاكلهم، ولم يعد لديهم خيار آخر سوى الهجر من بلدانهم التي تحولت إلى صحارى سياسية وفكرية، والاستقرار في البلدان الغربية.
لم تسفر الحرب الداخلية المستمرة في المجتمعات العربية منذ أكثر من ربع قرن عن أي انتصار لأي عقيدة أو مذهب أو فكر، وإنما عن انهيار الفكر كله، ونجاح قوى الانتهازية والبلطجة والتشبيح في فرض نفسها، كأنها أمر واقع لا مهرب منه. وخرج الطرفان المتنافسان على تقرير نموذج الحكم وممارسة السلطة وطبيعة الهوية والثقافة والمعايير الإنسانية السائدة أو التي ينبغي أن تسود في المجتمعات من المواجهة بهزيمةٍ شاملة، إسلاميين وعلمانيين، وتحولت المسارح السياسية في معظم البلدان إلى خرائب تعصف بها الرياح القاسية، بينما تربعت على عرش الدول، من دون منافسٍ ولا رقيب، طغمٌ مفترسة، لا تملك أي رؤية أو كفاءة أو التزام أو شعور، أمام شعوب مدماة ومحطمة ومشتتة، بلا قيادة ولا فكرة ولا اتجاه.
ما لم تعد النخب العربية، باتجاهاتها وتياراتها، الإسلامية وغير الإسلامية، إلى وعيها، وتعتبر بدروس الحرب الطويلة والمدمرة التي حكمت العقود الثلاثة الماضية من حياة العرب السياسية، وتقبل بالتعايش والتنافس ضمن معايير وشروط متفق عليها، واضحة وملزمة للجميع، وهذه هي الديمقراطية الحية، مقابل الديمقراطية الجاهزة، أي ما لم تقبل بالعودة إلى ساحة المعركة التي هي أوسع من الصراع على السلطة، أعني معركة البناء والتنمية الإنسانية والاقتصادية، والتفاهم حول عملية انتقال ديمقراطي لإنقاذ البلاد من الفوضى وتسلط الوحوش الكاسرة، فلن تتوقف الحرب، ولن يكون هناك، بعدئذٍ، لا سيادة ولا دولة ولا ديمقراطية ولا أمة ولا شعب. حكم التاريخ لا يخطئ، فإما الاعتراف المتبادل والحوار من أجل التفاهم أو استمرار الخراب والحرب
--------------.
العربي الجديد