اعتقد الأتراك أن مساري “أستانة” و”سوتشي”، سيفضيان بالضرورة إلى عتبة مفاوضات جنيف بين النظام والمعارضة، وتحت رعاية دولية، يتم من خلالها تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، لكنهم اكتشفوا أن الروس يريدون استخدام “أستانة” و”سوتشي” كقاعدة حل سياسي يتفق مع نظرة الكرملين بعيدًا عن جوهر القرار الدولي المذكور.
يعرف الأتراك جيدًا، أن النظام السوري الذي لم يرحم شعبه المطالب سلميًا بالحريات، لن يكون مؤتمنًا على حدودهم مع سوريا بوجوده فيها، ولهذا فهم يريدون تثبيت وقف إطلاق النار في منطقة “خفض التصعيد” الرابعة التي يضمنونها، والذهاب إلى مؤتمر جنيف باعتباره مرجعية الحل السياسي المتوافق عليه دوليًا.
حسابات الروس تختلف عن حسابات الأتراك في سوريا، فهم استثمروا في الصراع السوري عسكريًا وسياسيًا ليقطفوا ثمار ذلك نفوذًا واسعًا في هذا البلد، ولكن هل يستطيعون تحقيق المدى المرسوم من قبلهم لهذا النفوذ؟
الأمر هنا لا يتعلق بالروس فحسب، بل بإرادة الدول الأخرى المنخرطة بالصراع السوري، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، فالموقف الأمريكي في مرحلة حكم أوباما، الذي منح الروس فرصة الإمساك بالملف السوري، هو موقف تغيّر الآن في مرحلة حكم ترامب، الذي وقّع بحماسة على قانون “قيصر” الذي أقرّه الكونغرس بمجلسيه.
الموقف الأمريكي غير الواضح سابقًا، يسعى الآن إلى استمالة تركيا، التي انزاح موقفها التحالفي التاريخي مع الأمريكيين منذ سنوات، بسبب مواقف أمريكية من اتجاهات السياسة التركية العامة.
الأمريكيون لا يريدون أن ينفرد الروس والإيرانيون بالملف السوري، ويريدون دقّ إسفين في العلاقة التحالفية على الأرض بين روسيا وإيران في سوريا، وهذا طبيعي، وتعمل عليه الولايات المتحدة منذ حين. ولذلك، لتنفيذ هذه السياسة والرؤية الأمريكية، سيتقدم الأمريكيون خطوات باتجاه حليفهم التاريخي تركيا، ويغمضون العين عن التشاركات التركية- الروسية إلى حين، ويعملون على تعزيز الدور التركي في سوريا، من خلال دعمهم لدور تركي يضمن مبدئيًا عودة مناطق إدلب للحماية التركية، ما يسمح لهم بتعزيز مسار جنيف المتعثر.
هذه الخطوات الأمريكية، التي بدأت ملامحها بالظهور، عبر تزويد تركيا بمنظومات دفاع جوي متطورة، أدخلها الأتراك في مناطق إدلب، وترافق ذلك مع تزايد حجم الحشود العسكرية التركية في هذه المنطقة، ما يدلّ على أن الخطوة المقبلة هي سحق الميليشيات الإيرانية المتحالفة مع بقايا جيش النظام، والتي تحاول السيطرة على إدلب لخلق واقع جديد تقايض به إيران دوليًا للحفاظ على دور وحصة في الملف السوري.
سحق الميليشيات الإيرانية الذي يقترب أوانه زمنيًا، لن تستطيع روسيا الدفاع عنه أمام القوات التركية المدعومة بموقف أمريكي حاسم، لا سيما أن حزيران على الأبواب، وهو موعد سريان العمل بقانون “قيصر” الشهير، الذي سيفرض عقوبات، تدرك موسكو أنها سترتب مصاعب كبرى لاقتصادها.
إذًا، لماذا لا تشنّ تركيا هجومًا عسكريًا لاستعادة المناطق التابعة لمنطقة “خفض التصعيد” الرابعة في شمال حماة ومحافظة إدلب؟
الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى وقت ومقدمات تسبقه، ولعل تركيا اكتشفت خللًا في بنية المنظومة العسكرية لـ”الجيش الوطني” الحليف لها، وهذا يتطلب منها إعادة ترتيب الصف الأول في هذا الجيش، بما يضمن انضباطه، ومهنيته، ونظافة عمله، والذي تُتهم قيادات منه بالعمل لحسابها وكأنها جزر معزولة عن الناس الذين تمثلهم.
تركيا معنية أيضًا بإيجاد صيغة تفكيك لـ”هيئة تحرير الشام”، تكون ذات طبيعة هادئة، دون أن تكون هناك حرب وقتل ودمار جديد، وهو عمل تستطيع تركيا عبر نفوذها داخل هذه المجموعات أن تصل إليه.
لكنّ الأتراك معنيون بدرجة كبيرة، بتوفر ضمانات أمريكية، تحمي هجومهم، وتضعف الدور الإيراني في إدلب، وهذا يعني سحب البساط من تحت الوجود الإيراني، الذي يتهيّأ الأمريكيون لطرده من ساحتي سوريا والعراق، وظهر ذلك من خلال ترتيبات عسكرية أمريكية بتحصين قواعدهم في الأنبار وفي أربيل، ما يؤشر إلى احتمال حرب أمريكية ضد الوجود الإيراني.
الحرب الأمريكية المفترضة، والمتوقعة مع نهاية فصول “كورونا”، واقتراب سريان قانون “قيصر”، ستجعل الروس يعدّون على أصابعهم حجم الخسائر والأرباح في العلاقة مع الإيرانيين في سوريا. وهذا سيعطي انطباعًا واقعيًا يقول، إن الروس لن يقاتلوا دفاعًا عن الإيرانيين أو عن نظام الأسد إلى ما لا نهاية، فالأمر هو محصلة تنتج عن هذه الحسابات، والروس يدركون أن فخًّا أمريكيًا ينتظرهم في إدلب، ولهذا سيلملمون أنفسهم وميليشياتهم، ويحتفظون بإنجازاتهم المؤقتة في حميميم وطرطوس وبعض العقود الاقتصادية.
إذًا، وهو الأرجح، مقدمات الروس هي غيرها مقدمات إيران في سوريا أمام الهجوم التركي وتبعاته، هذه المقدمات تقول: إن القتال الروسي مع إيران في إدلب ثمنه روسيًا أكبر بكثير من هذا المنجز، ويخدم إيران أكثر مما يخدم الروس. وباعتبار أن تراجع إيران عن إدلب سيترتب عليه فتح بوابة هزيمتها وخروجها من سوريا بلا ثمار، فمن الأرجح أن تحدث حرب محدودة في إدلب تنسحق فيها طموحات إيران وميليشياتها، ولا يتدخل الروس فيها، ما يمهدّ إلى تراجع قدرات وطموحات نظام الأسد باستعادة مناطق سوريا، التي هي خارج نفوذه، بعد أن ساعده الروس على استعادة بعضها.
الاقتراب الأمريكي- التركي، الذي تتسع اللقاءات على مستويات رفيعة من أجله بين الأمريكيين والأتراك، سيساعد على اختصار الزمن وإفشال مشروع روسيا ومشروع إيران في سوريا، هذا التقارب يخدم بصورة غير مباشرة الشعب السوري وقضيته التي ضحّى من أجلها وهي دولة سورية لا استبداد فيها ولا يحكمها آل الأسد.