الغالب أن الزعيم نفسه هو من يصدق الحقيقة الزائفة التي يخلقها هو وإعلامه ويعيشون فيها
في العراق، كان الرئيس الراحل صدام حسين يحصي أنفاس العراقيين، حتى كادت تبدو "سوريا الأسد" عرين الحرية. كانت استخبارات صدام تقرأ الرسائل من وإلى العراق، وتتنصت على الاتصالات، وتتفحص المجلات والكتب الواردة. حتى المطبوعات التي كان يحملها المسافرون القادمون إلى العراق، كانت الاستخبارات تتصفحها بتمحيص، وتنزع أي صفحة فيها عبارة قد تبدو وكأنها تستهدف صدام، وإن بشكل غير مباشر على طراز "افتكرته كلب، طلع أسد".
لكن العراقيين، كالسوريين والمصريين والليبيين وسائر "الأشقاء العرب"، كانوا يدركون أن كل نشرة أخبار يبثها التلفزيون الرسمي عن الغارات التي كانت المقاتلات العراقية تشنها ضد إيران، وتعود دائما "إلى قواعدها سالمة"، هي دعاية زائفة. وأن العراق تلقى هزيمة مذلّة أمام التحالف الدولي الذي حرر الكويت، بما في ذلك قيام "أسد السنة" صدام حسين بتسديد تعويضات مالية لإسرائيل عن الأضرار التي تسببت بها صواريخ سكود، التي رماها عليها أثناء "حرب الخليج" الأولى.
ومثل السوريين، لجأ العراقيون إلى الدعابة. فحولوا شعار صدام عن انتصاره الوهمي في "أم المعارك" والقائل "محلى (ما أجمل) النصر بعون الله" إلى "محلى النصر بهولندا"، للدلالة أن العراقيين هربوا من صدام وانتصاراته الوهمية، إلى المهجر، بالملايين.
هكذا كان شكل السجن العربي الكبير، من المحيط إلى الخليج: إعلام رسمي دعائي باهت وتافه، ومواطنون نجباء يدركون الحقيقة ويتناقلونها على شكل دعابة، وأحيانا عن طريق الروايات والقصص والمسرحيات، مثل في روائع السوريين نهاد قلعي ودريد لحام، يوم كان الأخير يردد كلمات العملاق محمد الماغوط، وقبل أن ينقلب لحام إلى الابتذال وعشق ديكتاتورية الأسد التي يعيش في ظلها الوارف. حتى أن قلعي تعرض لهجوم من شبيحة الأسد أدى إلى شلل في إحدى ذراعيه.
لكن على رغم الدعاية الزائفة، والرقابة، وكتم الأنفاس، والتماثيل على أنواعها، والصور على الجدران وعلى كراسات الدراسة، يتذكر غالبية السوريين الأسد الأب اليوم بعبارة "يلعن روحك يا حافظ".
الإعلام العربي اليوم أكثر جاذبية تقنيا. فيه جميلات يقرأن الأخبار، بدلا من رجال الاستخبارات وشواربهم المرعبة. إيقاع الاعلام العربي اليوم أكثر سرعة، والصورة أكثر نقاء، والألوان أبهى، والموسيقى التصويرية أكثر إيقاعا. لكن فحوى الكلام تشبه ما كان عليه في الثمانينيات: دعاية تتبجح بالزعيم وإنجازاته، وتهاجم الخصوم.
يتم انتقاء ضيوف البرامج الحوارية، عرب وأجانب، وفقا لمواقفهم المعروفة مسبقا. الرأي الآخر، إن صدف أن تمت دعوته، فيتكفل المقدمون والضيوف بمهاجمته، ومقاطعة كلامه، وإبداء الازدراء تجاهه. أما الآراء المستقلة، والتي قد تثني على بعض أفعال الزعيم وتنتقد بعضها الآخر، فلا حاجة لها.
لماذا يخلق الزعماء واقعا بديلا؟ وهل يتوقعون أن يصدقه الناس؟ حتى الخليفة العباسي المأمون (حكم بين 810 و833 ميلادية)، قام بتزوير النقش في مبنى قبة الصخرة باستبدال اسم بانيها، الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (حكم بين 695 و705 ميلادية)، باسمه. لكن بدلا من أن يصدق العامة المأمون، ابتكروا "كليلة ودمنة"، ونقلوا الواقع على ألسنة حيوانات روائية، ولم ينطل عليهم خداع الدعاية العباسية، ولا تزوير التاريخ.
لن يتذكر التاريخ صدام والأسد والقذافي وغيرهم إلا كديكتاتوريين، أيديهم مخضبة بدماء خصومهم، وشعوبهم
ومثل صدام، فقد الأسد الابن المقدرة على التمييز بين الحقيقة ودعايته، فخال أن بإمكانه تهديد وقتل كل اللبنانيين، وبعدهم كل السوريين، بما في ذلك بالسلاح الكيميائي، بلا عقاب.
في التاريخ المعاصر، يندر أن نجح زعيم في تحوير الحقيقة وفرض الوهم الذي يريده كحقيقة بديلة، على الرغم من كل المحاولات الدعائية التي يقوم بها. فالتاريخ لا يرى في جوزف ستالين إلا طاغية روسيا، والتاريخ يسخر من خزعبلات ديكتاتور الصين ماو تسي تونغ وثوراته الدموية التي أسماها ثقافية.
ومثل ستالين وماو، لن يتذكر التاريخ صدام والأسد والقذافي وغيرهم إلا كديكتاتوريين، أيديهم مخضبة بدماء خصومهم، وشعوبهم. أما إعلام الزعيم، فهو حالة مؤقتة، يصفق له المواطنون لخوفهم منه، فيما هم يتناقلون الحقيقة بالهمس والدعابة.
--------
الحرة