لأربع سنوات ثورة مارس العلويون جميعا (باستثناء هؤلاء المئات) كل من موقعه ولو تأييدا، ما استطاعوا من قتل وقمع ونهب وتدمير للآخر السوري “السني” دون إخفاء الرغبة في تغيير ديموغرافي في سوريا عبر تهجير طائفي وانتزاع للثروة، معتمدين على “تطمينات” لم تنقطع من الغرب بقيادة أمريكية بـأن لا نية لعمل عسكري ضد النظام، مع استمراره بمنع الثوار من التسليح وغض البصر عن التسليح الروسي وتدخل إيران المباشر لإنقاذ النظام من السقوط و”تعهيد” سوريا لملالي طهران، مع محاولة وأد الثورة بالضغط عليها لحل سياسي على الطريقة اليمينة “الفاشلة”، الذي يحافظ بمضمونه على السيطرة العلوية ويفلت فيه كل من ارتكب جريمة منهم، لتبقى العقدة الوحيدة وفق “أحلام” الغرب توقيت إحالة بشار أسد إلى تقاعد مريح، أما في حال احتمال انتصار الثورة عسكريا فسيُسمح للعلويين تشكيل كانتونهم الطائفي “العلوي-المسيحي” مع “فدرلة” سوريا طائفيا وقوميا لضمان إضعاف الداخل السني وتقسيمه واستتباعه لدول الجوار مع المحافظة على شكل هش للدولة على الطريقة البوسنية حتى لو اقتضى الأمر عملا عسكريا بحجة محاربة الإرهاب وحماية الأقليات مع إفلات القتلة من العقاب.

بعد هذه “التطمينات الدولية”، لم يجد العلويون حاجة للتوقف عن القتل وتدمير سوريا، ولم تخاطر الأقليات الأخرى بالانخراط بالثورة ما دامت ترى أن النظام مستمر بدعم دولي، فتابع العلويون مقامرتهم للحصول على كل شيء دون ان يحسبوا حساب الوجه الآخر للمقامرة أي خسارة كل شيء.

الثوار السوريون الذين يصنعون الانتصارات اليوم من قوى ثورية وإسلامية بأطيافها المختلفة باتت مستقلة إلى درجة كبيرة سياسيا وعسكريا، بمصادرها المالية الخاصة من إدارة مناطقها ومصادرها العسكرية التي تمثل الغنائم جزءا كبيرا منها بما فيها تلك التي استولوا عليها من فصائل مسلحة موالية للإدارة الأمريكية، وإلى جانبها جبهة النصرة التي تعيد اصطفافها “الإيديولوجي” حسب ما يتسرب عن فك ارتباطها بتنظيم القاعدة وربما اندماجها بحركة أحرار الشام الإسلامية، بالتالي معظم “ثوار الانتصارات” اليوم يبرمجون أهدافهم السياسية والعسكرية باستقلال عن الرغبات الدولية بل والإقليمية إلى حد ما، ولا يقيمون وزنا للمعارضة ومؤتمر جنيف والحل التفاوضي السياسي الحالي والمجتمع الدولي شريك العلويين وحاميهم، كذلك هم لا يقيمون وزنا لكل الخطوط الحمراء والضغوط الدولية التي أفشلت سابقا كل محاولة لنقل المعركة إلى مناطق العلويين، رغبة لا يخفوها مع تأييد عارم في أوساط “السنة” السوريين الذين دفعوا ثمنا فادحا على يد العلويين، معركة لن تنتظر تحرير دمشق وحلب وحمص وحماه، بل بدأت عندما سمحت الجغرافيا والوضع العسكري بنقلها إلى سهل الغاب ثم حمص وتل كلخ والقصير واللاذقية وطرطوس وأريافهم حيث يتواجد العلويين، وهذه المرة لن يستطيع أحد إيقافهم حتى دخول “القرداحة” مسقط رأس وقبر حافظ أسد ورمز السيطرة العلوية على سوريا.

أيضا لابد من الإشارة إلى توافق ورغبة إقليمية مستجدة متسارعة “تركية سعودية قطرية” في إسقاط النظام العلوي عسكريا، مما يشكل حافزا حقيقيا للثوار للتعاون مع هذا الحلف الإقليمي وفق هذا الهدف الواضح، ويتيح لهذا الحلف الدخول بشراكة مؤثرة لتقرير شكل الدولة السورية بعد إسقاط النظام عسكريا وعلاقاتها الدولية.

الآن، وقد توفر المناخ الإقليمي المساعد والتوحد العسكري وغنائم السلاح المتصاعدة وانهيار معنويات وقوات النظام، بدأ الثوار باجتياح مناطق النظام العلوية بدأً بريف اللاذقية وغرب حماه “المتعطشة” لثأرها التاريخي وتحريرها لتتصل بريف حمص الشمالي “السني” المحاصر فالتوجه نحو حمص المحتلة وريفها “العلوي-المسيحي” لتحريرها بقيادة مقاتلي حمص الأشداء  المحاصرين المتعطشين لذلك، مع الإشارة إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي بات أيضا على مشارف حمص وحماه شرقا.

ستجري المعارك وبشكل متصاعد لتغطي كل مناطق العلويين، ما يعني أن قتلى النظام في تلك الجبهات سيكونون بمعظمهم من العلويين وليس من المرتزقة الشيعة المستوردَين، وستتعرض المناطق العلوية وسكانها كمسرح قتال للدمار والتهجير بعد أن عاشت بأمان تصدر المقاتلين العلويين زارعين الموت والدمار والتهجير لدى الآخر “السني”، وسيفقد العلويون اللاجئون كل ما جمعوه من ثروات خلال نصف قرن عبر الفساد ومن ثم النهب خلال سنوات الثورة الأربعة.

قريبا ستكون كل مناطق العلويين في سوريا “تحت النار” التي أشعلوها وستحرقهم هم ومن أيدوهم تماما كما أحرقوا سوريا ببطء طوال نصف قرن، وعلى “نار حامية” طوال أربع سنوات، بدم بارد وتشف وحقد ووحشية عبروا عنها بألف طريقة خلال سنوات الثورة، وسيصل صراخهم إلى كل العالم الغربي المتحضر الغارق في رغبته التاريخية بالانتقام، وسيتحرك “ضميره” حزنا على “الشبيحة” باعتباره لا يتحرك إلا مع الأقليات غير السنية حصرا، عندما غاب ضميره أمام إبادة أقليات “سنية” في العراق والبوسنة.

من الآن فصاعدا سيبدأ العلويون وأنصارهم الطوائفيون بدفع الجزء “الثقيل” من فاتورة جرائمهم التي ارتكبوها باعتبارهم بمعظمهم “النظام”، وليسوا طائفة “اختطفها النظام” حسب الأسطورة التي يرددها الغرب وبعض المعارضين.

ثلث إلى نصف العلويين اليوم باتوا خارج المعركة قتلى أو جرحى ومعاقين، العدد سيأخذ منحى تصاعديا متسارعا بعد انتقال الجبهات إلى مناطقهم، الجيش الذي كان يستخدم “المجندين السنة” بالإكراه على وشك التلاشي، اقتصاد النظام ينهار بتسارع كبير، حلفاؤهم الإيرانيون وعملاؤهم يئنون اقتصاديا وبشريا ويفقدون تدريجيا قدرتهم على تحقيق التوازن العسكري للنظام ويغرقون في مواجهات إقليمية بعد صحوة عربية، وبالطرف المقابل سوريون دفعوا ثمنا غير مسبوق في التاريخ من أجل حريتهم ودُفعوا للقتال وفق خيار “كل شيء أو لا شيء” الذي فرضه نظام علوي كان يؤكد لهم مع كل أنصاره وبكل وسيلة وحشية أن أي تردد أو توقف أو مساومة ستعني ضياع كل تضحياتهم واستمرار ذلهم وتهجيرهم ونهاية معتقليهم وضياع أموالهم ومستقبلهم بعد أن دفعوا حاضرهم ثمنا له.  

الأمر هنا ليست دعوة لتنفيذ هذا السيناريو بحق العلويين، بل قراءةُ عسكرية سياسية  لمآلات الأمور وفق المعطيات الحالية، فقد اختار العلويون بحماس الخيار الصفري “كل شيء أو لا شيء” متوهمين النصر، وهم يدفعون اليوم  ثمن “مقامرتهم” هذه إلى جانب النظام العلوي متمثلا بآل “أسد” الذي أخذ الخيار الصفري منذ بداية الثورة، ومع أن السوريين رغم عذاباتهم أعطوا العلويين فرصا عديدة لفك ارتباطهم بالنظام، إلى أن العلويين اصطفوا بحماس معه بغالبيتهم الساحقة، بينما تابع بضع عشرات منهم في المعارضة بأشكالها المختلفة مع تنفيذ بعض هؤلاء تعطيل أي حل عسكري وإسقاط حقيقي لحكم الطائفة العلوية.

لا أحد من السوريين “السنة” الثائرين يستهدف العلويين بسبب معتقدهم وكذلك باقي الأقليات وإلا لما بقيت أقلية في سوريا طوال أربعة عشر قرنا مع أن الجميع تقريبا تعاون مع المستعمر والغزاة على مر التاريخ، لكن الأكثرية السنية سامحت، المشكلة اليوم هي الحجم الهائل للجريمة والدماء التي اقترفوها بحق السنة، ليست المشكلة “طائفية السنة” التي لم تكن يوما سياسة جماعية بل حالات فردية لم تؤثر على وجود الأقليات بما فيها “الفتاوي” نتيجة تعاونهم مع المستعمرين والغزاة، بل المشكلة هي “طائفية العلويين” وجرائمهم التي مارسوها أو أيدوها بشكل جماعي، مقدمين الحجة بالتالي لتعرضهم للعقاب الجماعي في غياب تام لتيارات معارضة بينهم متحججين بإمكانية قمع النظام، فهم قرروا دفع الثمن الفادح لكن بالوقوف إلى جانب النظام لا بالتمرد عليه.

الطائفة العلوية كلها تقريبا متورطة وشريكة ومسؤولة، لا يغطي ذلك معارضة بضع عشرات أو مئات منهم، فقد  شاركت النظام بأشكال مختلفة وورطت معها باقي الأقليات بدرجات متفاوتة، لذلك على الطائفة أن تكفر مجتمعة عن أفعالها إن أرادت الخلاص الجماعي قبل فوات الأوان، ففي اللحظات الأخيرة (القريبة) من عمر النظام سيكون الخلاص الممكن فرديا فقط ولن يحظى به الكثيرون، أما اليوم فهناك فرصة لهم للخلاص الجماعي الذي سيستثني على الأقل بضعة آلاف من كبار القتلة.

لن تستطيع أقلية دينية أو قومية، هزيمة أكثرية “سنية” كبيرة في سوريا تعيش أصلا وسط بحر من “السنة” في المنطقة، ومن الوهم المراهنة على تغيير الديموغرافيا بالقتل والتهجير فذلك يرفع فقط فاتورة العقاب، أما طلب المعتدين ضمانات وتطمينات من الضحية فوقاحة تزيد النقمة عليهم، فلا ضمانات وتطمينات لمجرمين، ولا مجال لحكم أقلية، ولم يعد الحياد كافيا لأي أقلية كما كان الأمر بداية الثورة فتلك فرصة أضاعوها حينها مع الأسف.

العلويون هم من سيحددون مصيرهم، والوقت بات ضيقا، والخلاص الجماعي مقابل حقن الدماء خيار مقبول للأكثرية وبالاتفاق معها عبر قادتها الحقيقيين السياسيين والعسكريين، وهو أمر مختلف تماما عن الحل السياسي الدولي المطروح حاليا، وبمقاربات أخرى يفترض أن يساهم فيها المجتمع الدولي والإقليمي ويساهم فيه الثوار لمساعدة العلويين لتنفيذ دورهم الذي يسبق حتما بدأ محادثات الحل السياسي الجديد، دور العلويين الذي يتمثل بانقلابهم على رأس النظام وأركان حكمه ومن ثم وقف القتل وفك الحصار الإنساني وإطلاق المعتقلين والدخول بمواجهة مباشرة سياسية وربما عسكرية مع الميليشيات الشيعية الإرهابية لإخراجها من سوريا وفك ارتباطهم بمحور ملالي إيران، لتبدأ بعدها فقط محادثات الحل السياسي بعد إقرارهم بمبدأ “تسليم السلطة” للثورة مقابل شراكة محدودة فيها وبناء مؤسسات أمنية وعسكرية جديدة تماما يشكلها الثوار ويسمح للعلويين المشاركة فيها بضوابط ونسب لن تتجاوز حتما نسبتهم في سوريا، مع حصولهم على عدالة رحيمة تنجي مئات الآلاف منهم من عقاب يستحقونه وتكتفي بكبار القتلة وتسمح للعلويين كطائفة بالوجود في سوريا وعدم فقدان كل امتيازاتهم والحصول على حقوق مواطنة متساوية، أما الاستمرار إلى النهاية فنتيجته استسلام غير مشروط بعد استهلاك ما تبقى من رجالهم والمقامرة بنهاية وجودهم في سوريا بتهجير واسع رغم كل “الصراخ” الدولي تضامنا معهم.

 ------------------
فواز تللو: كلنا شركاء

سياسي وكاتب سوري