نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص

على هامش رواية ياسر عبد ربه

04/04/2024 - حازم صاغية


الكنيسة المارونية.. دولة لبنان العميقة






ذروة التصعيد السياسي بلغها النصّ البطريركي الماروني في رسالة الميلاد، بعد تحوّل تصعيدي واضح طرأ على خطاب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي وتدرّج منذ الصيف الفائت، قبل انفجار الرابع من آب 2020.


في رسالة الميلاد قال الراعي: "لا يسعنا القول سوى أنّ هذه الجماعة السياسية إنّما تتولّى إدارة دولة عدوّة وشعب عدوّ"، في أعنف توصيف للطبقة السياسية من داخل الاستابلشمنت، الذي تعدّ الكنيسة المارونية تحديداً، ركناً من أركان بنيانه الوطني.
سبق للبطريرك أن بدأ مسار التصعيد في منتصف تموز 2020 بنداء وجّهه للأسرة الدولية طالبها فيه بالتأكيد على "حياد" لبنان، وهو النداء الذي وفّر مادة سياسية استراتيجية، لا يوازيها أهمية إلا نداء المطارنة الموارنة في أيلول 2000 والدعوة يومها لانسحاب جيش الوصاية السوري وفق القرار الأممي 520 بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان وفق مندرجات القرار الأممي 425.
لم يوفر البطريرك أحداً من السياسيين من نقده اللاذع الذي جاء شمولياً يحمل في طياته تبنٍّ مباشر للعنوان الرادكيالي للثورة: "كلن يعني كلن". بيد أنّ أهميته بشكل خاص تكمن في إعلان التصادم بين الكنيسة المارونية وبين رئاسة الجمهورية وانقطاع خيط التودّد المجاملاتي الرفيع الذي كان يصل بين بعبدا وبكركي. 
ثم واصل البطريرك في رسالة رأس السنة الميلادية تصعيده بالقول: "لا يحقّ لأحد أو لأي فريق من الجماعة السياسية، أكانوا معنيين مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، أن يعرقلوا تشكيل الحكومة من أجل حسابات ومصالح آنية أو مستقبلية"، في أوضح نقد لإدراج الصراع السياسي حول الحكومة في سياق صراع استباقي على انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، طرفاه حزب الله والرئيس ميشال عون وصهره
أهمية كلام بكركي تتوزع على أربعة عناوين إستراتيجية.
أولاً: يحمل النصّ السياسي للكنيسة المارونية صفة نصوص الآباء المؤسّسين، أكثر من غيره من نصوص المرجعيات الروحية. بمخزونها الوطني العام الذي لا يقف عند حدود الهوية الطائفية او العرقية لقائله. وهي نصوص في العادة تتجاوز السياسي اليومي السجالي إلى ما هو أعمق حول مرتكزات الهوية واستمرارية الكيان واستقرار الدولة ومعاني الوطنية. فليس تفصيلاً أنّ لبنان الكبير ولد تحت جبّة البطريرك الياس بطرس الحويك، كامتداد موضوعي لقرون من نضالات ومناورات الموارنة للحفاظ على كيانية خاصّة بهم (تتسع للآخرين) أكان بالتضادّ مع العثمانيين، مع الأمير فخر الدين مطلع القرن السابع عشر، أو بالتفاهم معهم بحنكة ودهاء البطريرك يوسف حبيش (1832-1845) وصولاً الى اكتساب نظام متصرفية جبل لبنان (1861-1918) الذي منح الجبل استقلالاً إدارياً خاصّاً في بلاد الشام وأسّس لاحقاً للاستقلال السياسي بعد الحرب العالمية الأولى.
ثانياً: يتحصن النصّ الكنسي بعمق وطني مترفعّ بمعانيه القيمية والسياسية عن أي صراع سياسي مباشر حول الصلاحيات ونظام الشراكة السياسية، ويخاطب اللبنانيين، كل اللبنانيين، في أساس وجودهم في لبنان وفي معاني هذا الوجود في الشرق وأبعد. بهذا المعنى ينأى كلام البطريرك عن خطر إسقاطه في فخّ تجديد الفتنة السنية الشيعية ويحرّره من شبهة الرهانات الإقليمية، بمعنى الانحياز الضيق لمعسكر ضدّ آخر وفق خطوط الانقسام المذهبي التي تحدّد إطاراً من أطر الصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوس
وفي كلامه ما يمكنه أن يجدّد الثقة بالديموقراطية اللبنانية التي أطلقت عام 2005 ما سيعرف لاحقاً بالربيع العربي. وها هي بيروت تجدّد النسخة الثانية من هذا الربيع عبر ثورة 17 تشرين 2019، من دون أن تسقط في فخ الاحتراب الأهلي والعسكرة أو النكوص بالمطلب الاجتماعي السياسي التحديثي نحو هيمنة العقل الظلامي الديني، السني والشيعي على حدّ سواء.
ثالثاً: كلام بكركي هو الكلام الأوّل من نوعه الذي يصدر من عمق "الاستابلشمنت" ويمكن اعتباره انحيازاً حقيقياً لمطالب الناس في الشارع، وصاحب قدرة على إيصال صوت شبيبة الثورة أبعد بكثير مما تتيحه لهم قدراتهم الذاتية، والعنوان الذي يمكنه أن يشكّل رافعة لخارطة طريق مؤسساتية تسمح للبنان بالانتقال إلى ما بعد حكم "الجماعة السياسية (التي) تتولّى إدارة دولة عدوّة وشعب عدوّ". يمكن لبكركي أن تشكل المحاوِر الموضوعي للمهتمين بلبنان، والأهم أن تجدّد عناية الحكومات العربية المهتمة تقليدياً بلبنان والمنكفئة عنه اليوم بسبب فقدان الثقة الكامل بعموم الطبقة السياسية اللبنانية، أو بسبب أنّ ثقتها تنحصر بطرف أو طرفين سياسيين بالكثير لا يستطيعان وحدهما تشكيل مدخل عملي لكسر حال التصلّب السياسي الذي يصادر لبنان حاليًا.
لا شك أنّ الحكومات العربية صاحب الوزن في إنقاذ لبنان، تعوزها بشكل عام، رغبة التورط في بلد صعب ومخيّب للآمال. وهي بشكل خاصّ صاحبة حساسية عالية تجاه كل ما يمت الى فكرة الثورة والشارع، سيما وأنّها لا تمتلك ما يكفي من معطيات سياسية عن خارطة القوى اللبنانية المنتفضة ومواقفها واتجهاتها من القضايا التي تعني هذه الحكومات، وهو ما يقف حائلًا دون تطوير موقفها من موقف المراقب إلى موقف المتدخل.
بهذا المعني تشكّل الكنيسة المارونية الكيان الأبرز الذي يمتلك كلّ مواصفات ووزن المُحاوِر السياسي الضروري في هذه المرحلة. فهي الموقع الذي يفهم تعقيدات النظام الاجتماعي والسياسي اللبناني، وتعقيدات ما يحصل من تطوّرات دراماتيكية في الشرق الأوسط، كما يلتقي مع مطالب الشارع الاجتماعية والسياسية التقاءً أكيداً ونزيهاً، لا تشوبه مصلحة خاصة حزبية أو مذهبية أو مناطقية.
الأهمية الاستراتيجية للكنيسة في هذه المرحلة من تاريخ لبنان لا تقل عن أهميتها في مراحل سابقة حسّاسة، وهي مؤهّلة لأن تتحوّل إلى ورشة عمل لتدويل الحلّ في لبنان، وأن تكون الناطق الرسمي باسم ثورة منهكة، وأن يحمل بطريركها صليب لبنان نحو قيامة جديدة.
رابعاً: لا توجد خارج البيئة المباشرة للنزاع، أي الجمهور المباشر لحزب الله، أي اعتراضاتٍ جدية على مسألة حياد لبنان التي رفعها البطريرك الراعي كمدخل لإنقاذ لبنان. بل يكاد يكون عنوان الحياد هو النقطة الجامعة بين أغلبية لبنانية لا تريد أن يكون لبنان ساحة حرب بديلة أو متراساً تتمترس خلفه هذه الدولة أو تلك على حساب أمن هذه الغالبية واستقراراها وازدهارها. فالحياد، حتّى إثبات العكس، خيار شعبي في لبنان وفي أوساط الكثير من شيعته الذين لا يريدون أن يروا مكتسباتهم تتبدّد في سياق صراع لا يمت إلى مصالحهم بشكل مباشر، وهو الوعي الذي زادت حدّته منذ أن قال حسن نصرالله عبارته الصادمة، وهي أنّ موقفه من حرب اليمن أهم من موقفه في حرب تموز!
يحتاج المرء إلى الكثير من الجهد كي يقلّل من أهمية عنوان "الحياد" بالنسبة للبنان، في هذه المرحلة الاستراتيجية ضمن مسارات المنطقة من حولنا. فإذا كان العقد الأوّل للقرن الواحد والعشرين (2000-2010) قد حُكم بتبعاتِ ونتائجِ جريمة 11 أيلول 2001، وحَكَمت العقد الثاني منه (2011-2020) نتائجُ وتبعاتُ الربيع العربي المأساوية في عمومها، فإنّ العقد الثالث (2021-2030) سيُحكم وفق معادلة جديدة عنوانها الموجة الثالثة من السلام العربي الإسرائيلي، على نحو يعيد صياغة البنيان الاستراتيجي في الشرق الاوسط، بأبعاده السياسية والاقتصادية والتقنية والأمنية والعسكرية.

قد لا يكون لبنان جاهزًا للسلام الآن، علماً بأنّه من أكثر الدول المرشّحة موضوعياً للسلام مع إسرائيل. فعلي الرغم من حدوديته لإسرائيل، تغيب عناوين الاشتباك الحقيقية بين البلدين (ادّعاءات تاريخية في الكيان اللبناني كما هي الحال مع فلسطين، إحتلال كما هي الحال مع سوريا، .. الخ)، وتتقلّص ملفات الخلاف إلى ملفات تشبه تلك الموجودة بين أي دولتين حدوديتين، وتمتلك قابلية الحلّ السياسي والديبلوماسي بلا أكلاف تذكر. بهذا المعنى يصير الحياد هو البديل الموضوعي لفكّ أسر لبنان عن الصراع الإسرائيلي الإيراني الذي لا علاقة للبنان واللبنانيين به إلا من زاوية وصاية إيرانية على لبنان تمارسها ميليشيا حزب الله.

والحياد هو العنوان الذي يعيد وصل لبنان مع نظام المصلحة العربية التي سيتم تعريفها خلال هذا العقد وفق مندرجات الموجة الثالثة من السلام العربي الإسرائيلي.
أربعة عناوين تُحمِّل الكنيسة المارونية اليوم صفة "الدولة العميقة"، بكل المعاني الاستراتيجية، التي حيث وجدت، كما في مصر وتونس، ذهبت المجتمعات إلى الحلّ السلمي، وحيث غابت، كما في سوريا وليبيا واليمن، سقطت الكيانات وتفتّت المجتمعات. 
------------
اساس ميديا

 

نديم قطيش
الاحد 3 يناير 2021