والحال أن المفتي الغضوب، لا تتوقف طموحاته على آخر طراز للطائرات الحربية الأميركية، ولا على صواريخ ثاد الفتاكة. فهو على طريقة إيلون ماسك في التخطيط والرؤية، لقّننا نحن ودولتنا درساً في السياسة والإدارة طالباً من رئيس الحكومة "برامج عمل وورش مالية واقتصاد تقليديّ ورقميّ تؤسّس لنهضة شاملة"، ربما على مثال إدارة شيخنا الجليل للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. بالطبع، تلك النهضة لا تستقيم إلا ببقاء سلاح المقاومة، والإكثار من الشكر والحمد صباحاً ومساء للجمهورية الإسلامية الإيرانية، "من باب الأخلاقيات التاريخية" (يا للبلاغة).
قد يكون بيانه الذي ذكر فيه كل هذا، مصدر وحي لحكومات العالم، التي لا تنعم بميليشات رديفة وبحلف مع إيران، رائدة الاقتصاد الرقمي وما شابه. وقد ينتبه إيلون ماسك ودونالد ترامب لوصفة الشيخ السحرية، ويستلهمان منها ما يحقق شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً". فيسهل حينها إبرام صفقة الـ"أف35". ولا غرابة عندها -ومن باب الأخلاقيات التاريخية- أن يشكر ترامب شخصياً سماحة المفتي على معادلته الذهبية، ويذهبان سوية إلى طهران ويتعانقان مع الولي الفقيه.. وتعم الأفراح أرجاء المعمورة.
على أي حال، بيان الشيخ كان لا بد منه على سبيل التأديب والتوبيخ، لا لنواف سلام وحده، بل لسائر اللبنانيين، الذي كفروا بنعمة التحرير وبالسلاح "الذي يحمي لبنان" (متى حماه؟). هكذا، أكمل البيان هتافات المدينة الرياضية وتصريحات محمد رعد وبعض ما يتلفظ به إعلام الممانعة، الذي يرانا "صهاينة" وحسب. ونحن نعرف مصير صهاينة الداخل، عاجلاً أم آجلاً. فهل سنقرأ على الجدران مجدداً: "المجد لكاتم الصوت"؟
وصوناً للسلاح، أو ما بقي منه، واستكمالاً لبيان قبلان وما يصرح به أيضاً الشيخ نعيم قاسم وسائر قادة حزب الانتصارات، يعمل "الأهالي" على نحو يومي في التصدي لجنود "اليونيفيل" الذين لا يراعون حرمة ولا خصوصية ولا يستحون. ومن المعروف أن اليونيفيل جاءت بقرار عام 1978، وتجددت إلى يومنا هذا، وصار بحوزتها قرارات دولية كثيرة من الصعب تنفيذها، لما تنطوي عليه من تآمر دائم على السلاح. فإن قعدت وصمّت أذنيها وأغمضت عينيها وكتمت لسانها، فأهلاً بها، وإن تجولت ودارت وراقبت، فضرب جنودها وتحطيم آلياتها لا مفر منه.
ويبدو أن رئيسيّ الجمهورية والحكومة غفلا عن الأمر الواقع، وتماديا في الكلام عن حصرية السلاح بيد الدولة. والأسوأ من ذلك أنهما مقتنعان أن الحرب الأخيرة كانت كارثة، ولا يبصران أسرار الانتصار الذي يتبرعم بين أكوام القرى المحطمة.
هذا، ويطلب قبلان أن تكون الدولة "معنيّة بقيادة الأجيال العلميّة والمعرفيّة والاقتصاديّة، فضلًا عن تنمية قطاعات الزراعة والصناعة والثروات السطحيّة والمائية وغيرها". ونسي المفتي أن يقرن كل هذا بديمومة الحروب الأهلية والحدودية، والخارجية أيضاً، كي لا يصدأ السلاح وتعم بطالة المحاربين. فهل يطيب العيش وينتعش الاقتصاد ويزدهر العلم من غير وجود هذه "النخب الراقية" كتلك التي رأيناها أخيراً في المدينة الرياضية، والتي أنعشت ذاكرتنا واستعدنا معها مشاهد لا عدّ لها في "أيام مجيدة"، كلها مصدر فخر واعتزاز.
أما أولئك، من طراز جوزاف عون ونواف سلام، فهم حسب بيان قبلان، يتلهون "بالقشور"، من مثل العمل على جعل لبنان دولة طبيعية، والأنكى أن يكون مسالماً.
أليس هذا سبباً كافياً لتأديبهم وتوبيخهم؟ وربما أكثر، وفق عبارة "..وبئس المصير".
-----
المدن