لا شيء يحول دون الإعتقاد بإمكان حصول ذلك، لأنّ الأوبئة، إذا سادت طويلاً، تتحوّل من "داعية حرص" إلى "محرّضة على التمرّد".
الأوبئة، عندما تطول إقامتها، تُظهر عجز الحاكم وتزيد فقر المواطن، تدفع الحكومات الى اتخاذ إجراءات قمعية وترفع نسبة الغضب لدى الشعوب، تُمكّن المحظيين من اتخاذ أقصى إجراءات الحيطة والحذر فيما تسقط خشية الناس من الموت الذي يخطفهم، سواء أسكنوا أم ثاروا، جماعات وأفراداً.
الأوبئة قد لا تكون السبب المباشر للثورات، ولكنّها تعطي سبباً إضافياً للمستائين أصلاً حتى يثوروا. تُعطي خيالهم مواد عن مؤامرة تستهدفهم، وعاطفتهم زخماً ضد الحاكم حتى ينقلبوا عليه.
"عجرفة" النخب المحيطة بالحكام والحكومات ومراكز القرار، في الدول الغنية، تفجّر غضب الناس الذين يرون أنفسهم يعيشون بين منع وآخر، وبين حرمان وآخر.
في واشنطن وباريس، الحديث عن "التأثير الخبيث" لهذه النخب لا يتوقّف.
في الدول القمعية، يشمئز المواطن من النظرة الى نفسه في المرآة، فهو ليس محكوماً عليه أن يكون خروفاُ فحسب، بل أن يكون محروماً أيضاً.
في روسيا الإتحادية كما في روسيا البيضاء، هذه هي حال الكثيرين.
وفي الدول الفقيرة، لم يعد أحد يحتمل حكّاما بلا كفاءة أو بلا أخلاق أو بلا ضمير. الثورات التي نجحت في تغيير بعض الحكّام، وجدت نفسها مخدوعة وتهدر مزيداً من الوقت الثمين بإعطاء مزيد من الفرص لتحصد نتائج أسوأ.
وهذا ما يشعر به التونسيون واللبنانيون، على سبيل المثال لا الحصر.
معاناة الشعوب ليست واحدة ولا متساوية، ولكنّ ردّات فعلها ووسائل تعبيرها تتشابه.
نظرياً، لا تستطيع الثورات التي تندلع، في آن معاً، على امتداد العالم واختلاف أنظمة دوله، أن تعد نفسها بنجاحات كبيرة، إذ إنّ الأنظمة تتعاضد من أجل أن تنقذ نفسها، كما حصل على امتداد أوروبا في العام 1848، في إطار ما سمّي في حينه ب"ربيع الشعوب".
نظرياً أيضاً، يجد القمع، هنا وهناك، مشروعية، فيأخذ الحاكم راحته في الدفاع عن نفسه وعن مكاسبه.
ولكن، وحدها الدول القوية تغلب الثورات، لأنّها تملك ما يكفي من قدرات لتحويل الأنظار الشعبية نحو تحدّيات خارجية، فيما الدول الضعيفة التي تفتقر الى أدوات "الإلهاء" تسقط سقوطاً مريعاً، إذا لم تسارع الى تغيير قادتها وتحصين نفسها وتمتين علاقاتها وتثمير قدراتها.
جائحة كوفيد 19، أحدثت حتى الآن، ثورات كثيرة، سواء في التواصل أو في العمل أو في التجارة، ولكنّها أيضاً أحدثت وسوف تحدث ثورة في النفوس.
قلّة تستطيع أن تعيش برفقة هاجس الموت. الإنسان مفطور على أن يلهي وعيه عن حتمية الموت. الأوبئة وما تتطلبه من إجراءات إحترازية، تحوّل فكرة الموت الى هاجس إنساني يستحيل تحمّله.
ومن يدفع الإنسان الى العزلة، حتى لو كان من باب الحرص عليه، فسوف يتحمّل تبعات الغضب.
قلة قادرة على أن تحيا، في ظل أفق تسدّه توقعات إقتصادية "سوداء"، فالأمل هو وقود الحياة. آثار جائحة كوفيد 19 التي لا يتوقف الإقتصاديون عن الكلام عنها ملأت النفوس يأساً من الغد.
ومن يكن في موقع المسؤولية يتحمّل تبعة إقفال نافذة الأمل.
وتتعاظم المشكلة متى أضيفت هذه العوامل الإنسانية الضاغطة إلى حقائق موضوعية، كما هي عليه الحال في بعض الدول، حيث القمع وسيلة الحاكم للمحافظة على مكتسباته، وحيث النهب وسيلة النافذ لرفع مقامه، وحيث البلاهة ظاهرة على محيّا المسؤول، وحيث التبعية تفضح المستقوي، وحيث الأنانية تتحكّم بصاحب القرار.
إنّ جائحة كوفيد19، من حيث لا يدري كثيرون أصابت الأنظمة.
وحال الأنظمة مثل حال الإنسان، فكل نظام لا يملك مناعة كافية سيسقط سقوطاً مدوّياً، تحت ضربات شعب يئس من الفقر والتبعية والفساد والأنانية وكبرياء ...البلهاء.
------------
النهار العربي
------------
النهار العربي