كتبت مراراً عن مشكلة الهوية في السنوات الماضية. وظننت أنها باتت مفهوماً واضحاً لغالبية الناس. لكن النقاشات التي اطلعت عليها هذه الأيام، أوضحت لي أن الغموض المحيط بالفكرة ما زال كما تركته قبل بضع سنين. ليس هذا بالأمر الغريب، فمفهوم «الهوية» جديد على الثقافة العربية، ولو راجعت المعاجم القديمة لما وجدت له عيناً ولا أثراً.
إنه مثالٌ عن مئات التعابير التي نتداولها ونظنها عربية صميمة. لكنها ليست كذلك، فهي مستوردة من إطار معرفي مختلف. ولهذا فإن حمولتها المفهومية والقيمية متباينة بين شخص وآخر، تبعاً لقبوله بمغازيها. وكنت قد التفت لهذه المشكلة، حين وجدتُ من يدعو الناس لاختيار حرج بين الدين والوطنية والقومية، ووجدتُ الناس مضطرين للقول بأنهم مسلمون فقط أو مسلمون أولاً، خشية أن يكون القول بالهويات الثلاث معاً، خادشاً لصفاء الاعتقاد.
حسناً... لماذا نذكر هذه الأمثلة في سياق الحديث عن «أزمة هوية»؟
يقودنا هذا السؤال إلى جوهر المشكلة. لقد افترض بعض الناس أن الهوية الدينية متمثلة في النموذج الاجتماعي الذي يشمل خصوصاً موقع الفرد في نظام العلاقات الاجتماعية، مظهره الشخصي، والتزامه الأعراف السائدة. ويعج التراث العربي بنصوص وشروح حول كل من هذه العناصر، وثمة تأكيد على علاقتها بالدين أو حتى كونها جزءاً منه، كحال النقاب الذي ذكرته آنفاً.
حين تكون في مجتمع يطلب هذه المظاهر أو يتقبلها، فلن يكون ثمة مشكلة. لكنها ستبرز حتماً حينما تعيش في مجتمع يعارضها أو يفضل غيرها، كحال المجتمعات الأوروبية اليوم. أقول إن هذا يعيد طرح السؤال من جديد: هل الزي (بما فيه الشكل المسمى حجاباً شرعياً) وبقية المظاهر، وكذلك الأعراف الحياتية، هل هذه جميعاً من جوهر الدين، وأن الدين لا يقوم إلا بها، أم إنها من أعراض الحياة التي اكتسبت لوناً دينياً، أو احتملت لوناً دينياً، مع أنها ليست من جوهر الدين؟
إني أعلم بنوعية الأجوبة التي تقابل سؤالاً كهذا. لكن الجواب الانطباعي أو العاطفي المألوف، لا يفيدنا كثيراً. ما نحتاجه هو التأمل العميق في الأشكال الحقيقية، أعني جدل العلاقة بين الإسلام والعصر، وإن تمظهر اليوم في إطار ما نسميه «أزمة الهوية».
------------
الشرق الاوسط