أما بالنسبة إلى أزمة أوكرانيا التي قاربها ترامب المرشّح بتلميحات ثابتة لكن غامضة، فقد ثار جدل كبير مبكر، باعتبار أنها مرتبطة أكثر بالاستراتيجية الغربية العامة وخريطة نفوذ حلف «الناتو» إزاء روسيا. كان ضم بوتين شبه جزيرة القرم، غداة انفجار الأزمة الداخلية في أوكرانيا (مارس 2014)، أدخل روسيا في نفق عقوبات غربية قاسية انعكست سريعاً على عملتها وتجاراتها ولا تزال مؤثّرة في اقتصادها. وإذ يلعب الأوروبيون دوراً محورياً في هذه الأزمة، كونها أحيت أشباح الحرب الباردة ورسمت حدوداً وخطوط تماس ساخنة بين شرق أوكرانيا وغربها، فقد كان متوقّعاً أن يتوجّس الأوروبيون من توجّهات ترامب التي انعكست على علاقتهم به، خصوصاً بعدما لوّح بمراجعة علاقة أميركا بـ «الناتو»، ما لم يرفعوا نسبة مساهمتهم في تمويله. وأدرك ترامب لاحقاً التعقيدات التي تحول دون تعرّضه للملف الأوكراني، لكنه استغلّه أخيراً لتشويه سمعة منافسه جو بايدن في انتخابات 2020 ما قاد إلى الحملة المتفاعلة حالياً لتنحيته.
لا شك أن الأزمة الأميركية الداخلية التي تسبب بها التدخل الروسي في انتخابات 2016 زرعت قلقاً دائماً في إدارة ترامب، ورغم «تبرئته» الملتبسة من التعاون مع روسيا كانت هناك جوانب غموض تظلّل مقارباته وسياساته، لأي ملف يتعلّق بروسيا. وهناك شبه إجماع بين مشرّعين ومحللين أميركيين على أن «هدايا» ترامب إلى بوتين بلغت أخيراً حدّ المجازفة بعلاقة استراتيجية قديمة مع تركيا ودفعها إلى الحضن الروسي، بل إلى التخلّي العلني الصريح عن الحليف الكردي الذي كان لا يزال يقاتل «داعش» حين قرر ترامب غضّ النظر عن التدخل التركي رغم تحذيرات البنتاجون والاستخبارات من خطرَين: ارتكاب الأتراك جرائم تطهير عرقي ضد الأكراد، وإضعاف الحرب على «داعش» في اللحظة التي تتطلّب مواصلة الضغط للقضاء عليه.
عندما قرّر ترامب أواخر 2018 الانسحاب من شمال شرقي سوريا لم يتطلّب الأمر جهداً كبيراً لاستنتاج أن خطوته كانت تخاطب روسيا أولاً وأخيراً، فهي القوة المهيمنة في سوريا التي كرّرت خلال الأعوام الماضية دعوتها القوى الخارجية المتدخلة إلى الانسحاب من سوريا. أما تركيا فاستشعرت خطراً بوجود «دويلة» كردية قيد التكوين على حدودها، إلا أن ترامب وعد رجب طيب أردوغان بـ «منطقة آمنة».
بعد اتفاق مايك بنس – أردوغان في أنقرة، ثم اتفاق بوتين – أردوغان في سوتشي، زالت كل الشكوك في ما تريده الدولتان الكبريان. فكلاهما اعترف لتركيا بـ «المنطقة الآمنة»، واعتبر أن حقوق الأكراد مسألة يمكن أن تحلّ في إطار الحل السياسي لسوريا. وهكذا فقد جاء الاتفاقان متكاملين، إذ توصّل «اتفاق بنس» إلى هدنة فرملت الاجتياح التركي لقاء الانسحاب الكردي، وما لبث «اتفاق بوتين» أن فرض على أردوغان وقف الهجوم وعدم التوسّع شرقاً وقبول عودة مناطق الأكراد إلى سيطرة النظام السوري لقاء ضمان بإبعادهم عن الحدود وعدم تمكينهم من إقامة كيان خاص بهم، ويضاف إلى ذلك التمهيد لتنسيق بين أنقرة ودمشق في شأن أمن الحدود بمشاركة روسية. وهكذا يكون ترامب قد حقق لبوتين ما يريده في سوريا وأسس لـ «شراكة» أميركية – روسية في تركيا، بالإضافة إلى ما يستتبع ذلك من مكاسب استراتيجية لروسيا.
--------
الاتحاد
لا شك أن الأزمة الأميركية الداخلية التي تسبب بها التدخل الروسي في انتخابات 2016 زرعت قلقاً دائماً في إدارة ترامب، ورغم «تبرئته» الملتبسة من التعاون مع روسيا كانت هناك جوانب غموض تظلّل مقارباته وسياساته، لأي ملف يتعلّق بروسيا. وهناك شبه إجماع بين مشرّعين ومحللين أميركيين على أن «هدايا» ترامب إلى بوتين بلغت أخيراً حدّ المجازفة بعلاقة استراتيجية قديمة مع تركيا ودفعها إلى الحضن الروسي، بل إلى التخلّي العلني الصريح عن الحليف الكردي الذي كان لا يزال يقاتل «داعش» حين قرر ترامب غضّ النظر عن التدخل التركي رغم تحذيرات البنتاجون والاستخبارات من خطرَين: ارتكاب الأتراك جرائم تطهير عرقي ضد الأكراد، وإضعاف الحرب على «داعش» في اللحظة التي تتطلّب مواصلة الضغط للقضاء عليه.
عندما قرّر ترامب أواخر 2018 الانسحاب من شمال شرقي سوريا لم يتطلّب الأمر جهداً كبيراً لاستنتاج أن خطوته كانت تخاطب روسيا أولاً وأخيراً، فهي القوة المهيمنة في سوريا التي كرّرت خلال الأعوام الماضية دعوتها القوى الخارجية المتدخلة إلى الانسحاب من سوريا. أما تركيا فاستشعرت خطراً بوجود «دويلة» كردية قيد التكوين على حدودها، إلا أن ترامب وعد رجب طيب أردوغان بـ «منطقة آمنة».
بعد اتفاق مايك بنس – أردوغان في أنقرة، ثم اتفاق بوتين – أردوغان في سوتشي، زالت كل الشكوك في ما تريده الدولتان الكبريان. فكلاهما اعترف لتركيا بـ «المنطقة الآمنة»، واعتبر أن حقوق الأكراد مسألة يمكن أن تحلّ في إطار الحل السياسي لسوريا. وهكذا فقد جاء الاتفاقان متكاملين، إذ توصّل «اتفاق بنس» إلى هدنة فرملت الاجتياح التركي لقاء الانسحاب الكردي، وما لبث «اتفاق بوتين» أن فرض على أردوغان وقف الهجوم وعدم التوسّع شرقاً وقبول عودة مناطق الأكراد إلى سيطرة النظام السوري لقاء ضمان بإبعادهم عن الحدود وعدم تمكينهم من إقامة كيان خاص بهم، ويضاف إلى ذلك التمهيد لتنسيق بين أنقرة ودمشق في شأن أمن الحدود بمشاركة روسية. وهكذا يكون ترامب قد حقق لبوتين ما يريده في سوريا وأسس لـ «شراكة» أميركية – روسية في تركيا، بالإضافة إلى ما يستتبع ذلك من مكاسب استراتيجية لروسيا.
--------
الاتحاد