وشمل ردّ النظام الملكي الفوري على الاحتجاجات دستورا جديدا في 2011 نقل بشكل رمزي بعض صلاحياته الواسعة لصالح رئيس الحكومة المنتخب، ما سمح للإسلاميين المعتدلين في "حزب العدالة والتنمية" باكتساب حسّ من الصلاحية في حكومة المغرب الوطنية.
لا يزال كثير من المغاربة يرغبون في نظام ملكي دستوري بدلا من نظام ملكي تنفيذي
ويُعتبر الاستحواذ على الحياة الدينية من خلال الاستقطاب في الواقع ميزة لطالما طبعت تاريخ المغرب؛ فلفترة طويلة من الزمن كان الملك الممثل الوحيد للإسلام في البلاد بصفته "أمير المؤمنين". وتقليديا، لطالما كان مقر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية محاذيا للقصر الملكي (في المشور) كي يتمكّن الملك من التوجّه إلى مبنى الوزارة سيرا على الأقدام لتفقّد شؤون البلاد الروحية.
علاوة على ذلك، كان الملك في الماضي، ولا يزال، يقدّم هدايا مالية سنوية إلى المحافل الدينية للإسلاميين الصوفيين المعتدلين المنتشرة في كافة أنحاء البلاد من أجل ضمان دعمهم المؤكد.
واليوم، يضمّ المحفل الصوفي القوي للطريقة البوتشيشية، الواقعة في محيط مدينة بركان المغربية الشرقية، الملايين من أصحاب المهارات العالية والمهن السامية في المغرب وخارجه على السواء، جميعهم أتباع أوفياء للطريقة. وبالفعل، خلال "الربيع العربي" في 2011، نظّم هؤلاء الأتباع تظاهرة حاشدة في الدار البيضاء دعما للملك والملكية بالمغرب وتعبيرا صارخا لولائهم للنظام التقليدي المعروف بـ"المخزن".
وخلال فترة الانشقاق والفتنة الكبيرين في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ـ حين انقسمت البلاد إلى بلاد المخزن (وهي أراض خاضعة للحكومة) وبلاد السيبة (أراضي المنشقين) ـ توطدت العلاقة بين الدولة والدين بشكل أكبر. فتألفت بلاد السيبة عموما من الضواحي المغربية والمأهولة من قبل شعب الأمازيغ. ورغم أن هذا الشعب اعترف بالسلطة الدينية للملك وقدّم الصلوات باسمه وخصوصا خطبة الجمعة، إلا أنه رفض الاعتراف بمكانته السياسية، وبالنتيجة، أبى أن يدفع له الضرائب.
وبالتالي، لا يرفض الشعب المغربي عموما العلاقة بين الدولة والدين ضمن المملكة لأنها مرادفة للاستقرار والتسامح والاعتدال. وعندما يتعلق الأمر بالدين، ينتهج معظم المغاربة فكر "الوسطية"، وهو أسلوب إيمان ديني يركّز على مقاربة "وسطية ومعتدلة" إزاء الدين، داعيا على وجه الخصوص إلى رفض العنف والتطرف. غير أن الاستقطاب السياسي الذي تمارسه الدولة في الآونة الأخيرة هو موضوع منفصل. فالمغاربة يدركون ويرفضون بشكل متزايد مساعي الدولة للاستحواذ على المجال السياسي في البلاد لأن ذلك يغذي الفساد والمحسوبية والقبلية والنظام الأبوي وإساءة استعمال السلطة.
وعليه، لم يساهم الوعد الدستوري بديمقراطية تدريجية من أيام "الربيع العربي" إلى حدّ كبير في تغيير التحديات الفعلية للحياة المغربية، وهو ما سعت "حركة 20 فبراير" أساسا إلى معالجته. وفور مشاركتهم في السلطة، أثبت إسلاميو "حزب العدالة والتنمية" أنهم غير مجدين في معالجة هذه المسائل بسبب عدم وضعهم برنامجا اقتصاديا متماسكا. وحتى على المستوى الأخلاقي، نسف الإسلاميون شرعيتهم في ظل تورّط أعضاء بارزين في فضائح جنسية وقضايا فساد ومحسوبية وإساءة استعمال السلطة، ونتيجة لذلك، تلطخت سمعتهم في نظر عامة الشعب.
ووفقا لذلك، تشبه التحديات الاقتصادية المستمرة في المغرب، إلى جانب التفاوت الكبير في المجتمع بين "الأثرياء" و"الفقراء" في جوانب عدة، حالات الاستياء الاقتصادي التي أدّت إلى اندلاع أحدث موجات من الاحتجاجات في السودان والجزائر.
نسف الإسلاميون شرعيتهم في ظل تورّط أعضاء بارزين في فضائح جنسية وقضايا فساد
كذلك، تساهم ظاهرة "الهبوط بالمظلات" في هجرة الأدمغة في المغرب؛ فالمواهب المغربية المهملة محليا ستركّز غالبا على مغادرة البلاد إلى بيئات أكثر ديمقراطية تقدّرهم بالكامل ـ ولا سيما أوروبا والولايات المتحدة. إنها حقيقة دائرة ذات استدامة ذاتية حيث أن الذين يستفيدون أساسا من النظام هم نفسهم الذين يرتقون إلى مراتب عالية، ما يحبط طموحات الجيل المقبل بشكل أكبر.
كما تعكس حالات فشل "حزب العدالة والتنمية" تحديا آخر في الحياة السياسية المغربية: ففي حين كانت أحزاب المعارضة في المملكة ناشطة وفعالة إلى حدّ كبير خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عرقل الملك الراحل الحسن الثاني عمليا هذا المشهد السياسي من خلال تشجيع الانشقاقات ضمن أحزاب المعارضة المتراصة الصفوف واستقطاب قادة المعارضة المنشقين عبر مزايا الريع وكذلك المناصب الوزارية السامية والسلطة السياسية النافذة.
ومن خلال هذه العملية، أصبحت الأحزاب السياسية المغربية أقرب إلى "دكاكين سياسية". فقد ضمنت هذه التنظيمات المال والوظائف النافذة ومباركة النظام الملكي لأعضائها مقابل الحفاظ على الحالة القائمة. وعبر هذه العملية أيضا، خسرت الأحزاب السياسية مصداقيتها وأصبحت غالبية المغاربة تنظر إليها على أنها من موظفي مؤسسات الدولة واصفة إياها بـ"العياشة" ـ أي الخاضعون لسلطة الدولة ونفوذها الواسع.
وكانت أحزاب المعارضة الوطنية الأقدم تملك كذلك صحفا نافذة تعرض وجهة نظر الحزب، منتقدة في الوقت نفسه الحكومة المغربية. وكانت هذه الصحف بمثابة وكلاء مساءلة نافذين راجعوا وانتقدوا عمل الحكومة والنظام الملكي على حد سواء. وخلال تسعينيات القرن الماضي، ظهرت إلى الوجود الصحافة المستقلة، وهو أمر لقي ترحيب غالبية الشعب المغربي، غير أن قدرتها على ممارسة الضغوط الضرورية على الحكومة أصبحت محدودة عندما سعت الدولة إلى الاستحواذ على هذه الأداة من خلال الاستقطاب المادي.
واليوم، تمدح معظم وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية في المغرب مؤسسات الدولة بشكل كبير مقابل مكافآت مالية استقطابية. وقد أدّى ذلك إلى تراجع شراء الصحف المطبوعة، مما تسبّب بإقفال بعض شركات الطباعة كليا. أما وسائل الإعلام الإخبارية الإلكترونية، فيتمّ تجاهلها عموما باستثناء جريدة " هسبريس" المتداولة بشكل كبير والتي تنتقد الحكومة ومؤسساتها بلطف ودبلوماسية. غير أن استعداد الصحافة لنشر الاستياء المعبّر عنه بحرية هو الاستثناء وليس القاعدة في أوساط الإعلام المغربي.
كما هي الحال في السودان والجزائر، ينعدم تساوي الفرص في المغرب
لكن اليوم، وكما كان الحال خلال "الربيع العربي"، لا يزال كثير من المغاربة يرغبون في نظام ملكي دستوري بدلا من نظام ملكي تنفيذي، كما أنهم لا يزالون يبحثون عن نظام يكفل محاسبة جميع الجهات الفاعلة السياسية بالكامل.
وفي ظل احتمال نشوء دولة ديمقراطية على حدودهم الشرقية، قد تتراجع رغبة المغاربة في قبول استمرار استحواذ الدولة على جوانب الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد من خلال الاستقطاب بكل أشكاله وأنواعه الظاهرة أم الخفية.
الدكتور محمد اشتاتو هو أستاذ العلوم التربوية في جامعة الرباط، ويعمل أيضا كمحلل سياسي لدى وسائل الإعلام المغربية والخليجية والفرنسية والبريطانية حيث يركز على الثقافة والسياسة في الشرق الأوسط، كما يركز أيضا على الإسلام والإسلاموية وظاهرة الإرهاب. اشتاتو متخصص أيضا في الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث يركز على جذور الإرهاب والتطرف الديني.
------------
منتدى فكرة