القضية الأساسية التي ترهق الناس شرقاً وغرباً وجنوباً، هي تشظي البلاد والانقسام الذي يزداد تجدراً بين مكونات الكيان الوطني. دولتان ليبيتان، حكومتان بكل أجهزتهما. في برقة مجلس وزراء ومجلس نواب ومصرف مركزي وجيش، المكونات الأربعة نفسها في طرابلس، بل أكثر.
الجميع يشتكي من الجميع، وأصوات المظلومية ترتفع في كل مكان، والمطالب تتوالد وعقلية المغالبة تنهش ما تبقى من لُحمة اجتماعية تقادمت ولم تعد قادرة على رتق الفتق.
الاختلاف بين بني البشر حقيقة زمنية ترافق فعل الحياة في كل مكان. تنهض الشعوب بقدرتها على اجتراح قواعد لإدارة اختلافاتها عبر صيغ سياسية وقانونية ناظمة للتعايش السلمي بين كل شرائح المجتمع. لا توجد وصفة دستورية أو سياسية صالحة لإدارة اختلاف كل الأمم. هناك أنظمة ملكية وأخرى جمهورية وبرلمانية، شعوب تُحكم بحزب واحد وأخرى بأحزاب متعددة. الصين الشعبية حققت قفزتها الاقتصادية بحزب واحد تغير وتطور، لكنه بقي على هامة السلطة لعقود وصار حزباً أبوياً وطنياً. في بريطانيا والولايات المتحدة حزبان تاريخيان يتبادلان التداول على السلطة لسنوات طويلة. حزبا العمال والمحافظين في بريطانيا والحزبان الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية. صارت هذه الأحزاب أحزاباً أبوية قادرة على التفاعل والتعايش مع الاختلافات السياسية التي تعج بها مجتمعاتها. القدرة على إدارة الاختلاف عبر تنظيمات مؤسساتية، مرتكز مصيري لتحقيق السلم الاجتماعي والتفاعل مع المتغيرات البشرية التي لا تتوقف. الاضطرابات السياسية والاجتماعية تنفجر بقوة إذا انفرط خيط القدرة على إدارة الاختلاف على أسس سلمية مقننة بالدستور أو بالعرف والتقاليد مثلما هو الوضع في بريطانيا وغيرها في بعض الدول.
ليبيا تشهد اليوم اختلافات، بل وخلافات رأسية وأفقية، وغابت المقاربات الواقعية لوضع أسس لإدارة هذا الخلاف الذي وصل إلى الصدام الدموي المسلح. هناك من يعتقد أن تجاوز ما تشهده البلاد من أزمات متفجرة هو فرض الاتفاق على الجميع بقوة السلاح، أو بتمكين الآيديولوجيا المهيمنة من طرف واحد على الآخرين جميعاً. ذلك لن يكون سوى إضافة متفجرات مرعبة إلى صندوق النار الكبير. المخرج ليس تقاسم السلطات والمصالح والنفوذ على أساس جهوي أو اجتماعي أو آيديولوجي، ولكن مأسسة الدولة بداية من بناء كيانها الواحد وتحكيم القانون على أساس المساواة على قاعدة المواطنة التي لا مكان فيها للإقصاء. تحديد الهوية الاقتصادية للدولة الليبية وخريطة العلاقات الخارجية، لكن ذلك كله يقتضي وضع قواعد ثابتة للتداول على السلطة والمحاسبة القانونية والدستورية لها. المركزية في إدارة الدولة صارت من بقايا عهود فرض الاتفاق وتقود إلى وهن الأجهزة بكل مستوياتها وتعرقل مصالح المواطن، والمحاصصة سواء كانت على أساس مناطقي أو طائفي أو عرقي تلغي مفهوم الدولة بنيةً وكياناً، بل تدمر وجود الوطن ذاته.
الاستحقاق الضاغط اليوم هو ما هي الآلية العملية القادرة على ولادة القدرات التي تستطيع إعادة بناء الدولة الليبية وفق ثوابت واقعية جديدة. البداية تكون بالعمل على تفعيل مشروع الدستور أو يصار إلى إعلان دستوري مرحلي للعمل به في مرحلة زمنية مناسبة ومحددة قادرة على إدارة الاختلاف مرحلياً وعلى المدى الطويل بعد إقامة الدولة الجديدة.
-------------
الشرق الاوسط