ومنذ اندلاع عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، دخل الشرق الأوسط مرحلة تحولات عميقة، عجّلت بانهيار الأنماط التقليدية للصراع، ودفعت القوى الفاعلة نحو إعادة تموضع استراتيجي شامل. فبين حروب غزة، وانهيار النظام السوري، وتراجع النفوذ الإيراني، وصولاً إلى الضربات الأميركية المباشرة في يونيو 2025، تبلورت ملامح مرحلة انتقالية معقّدة. هذا النص لا يقتصر على رصد الأحداث، بل يسعى إلى استشراف صورة الشرق الأوسط المقبل من خلال مراجعة السياسات الكبرى (الأميركية، الأوروبية، الإسرائيلية)، وتحليل مواقف القوى المحلية، وقياس تطلعات الشعوب التي باتت تميل إلى الاستقرار والتنمية بدلاً من المواجهة والدمار.
انتقلت السياسة الأميركية من التدخل المباشر إلى التحكم عن بعد. ولم تعد واشنطن تسعى لإدارة المنطقة عبر الجيوش، بل عبر الحلفاء والوكلاء، ومن خلال أدوات اقتصادية واستخباراتية. وبرزت إسرائيل كعنصر محوري في هذه المعادلة، شريكاً أمنياً واستراتيجياً لدول الخليج، فيما جرى تصنيف إيران كخصم ينبغي احتواؤه، لا إسقاطه.
أما أوروبا، فتحوّلت إلى لاعب ثانوي تقوده الهواجس الأمنية، وعلى رأسها الخوف من موجات الهجرة وعدم الاستقرار. حيث تراجعت طموحاتها الجيوسياسية، وانحصرت أولوياتها في ملفات الطاقة واللجوء، من دون قدرة على الفعل المؤثر.
إيران، التي رفعت شعارات المقاومة والتحرر، تواجه اليوم أزمات داخلية خانقة، وتآكلاً متسارعاً في شرعيتها داخل العراق وسوريا ولبنان. فمشروعها السياسي يواجه الإنهاك، ومع استمرار الضربات الإسرائيلية، باتت قدرتها على الردع تتراجع لصالح نهج الصمود لا المبادرة.
أما إسرائيل، فتبدو اليوم الطرف الأكثر قدرة على إعادة رسم التوازنات. فمنذ منتصف يونيو 2025، شنّت ضربات دقيقة داخل العمق الإيراني استهدفت منشآت نووية وصاروخية، بدعم لوجستي أميركي ضمني. وردّت إيران بهجمات محدودة باستخدام الصواريخ والطائرات المسيّرة، من دون إحداث تأثير كبير. إن هذا المشهد يعكس توازن ردع هش: كل طرف يتجنب الحرب الشاملة، لكنه يواصل التقدم على حافة التصعيد.
في 20 يونيو 2025، شنت الولايات المتحدة عملية “Operation Midnight Hammer” مطرقة منتصف الليل، حيث نفّذت ضربات جوية مباشرة على ثلاثة من أهم المواقع النووية الإيرانية (فوردو، نطنز، وأصفهان)، مستخدمة قاذفات استراتيجية وقنابل خارقة للتحصينات. وأعلن البيت الأبيض أن العملية نجحت في “إبطاء البرنامج النووي الإيراني بشكل كبير”، ما شكل تحولاً نوعياً في استراتيجية الردع، إيذاناً بانتهاء مرحلة “الاحتواء الصامت”.
حيث تسببت هذه الضربات في ارتفاع أسعار النفط بأكثر من 10%، وسط مخاوف من بلوغ حاجز 100 دولار للبرميل إذا تصاعد التوتر في مضيق هرمز. كما اتجهت الأسواق نحو الأصول الآمنة، وتفاوتت ردود الفعل الدولية: أوروبا دعت إلى التهدئة، ودول الخليج أعربت عن قلقها من تداعيات أمن الطاقة، فيما أكدت واشنطن استعدادها لاستخدام القوة لحماية خطوطها الحمراء.
في 23–24 يونيو 2025، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن اتفاق لوقف إطلاق نار بين إسرائيل وإيران، تم التوصل إليه بوساطة قطرية وعُمانية، بعد مشاورات هاتفية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ووسط اتصالات أميركية غير مباشرة مع طهران. أشار ترامب إلى أن الهدنة ستبدأ “فوراً” واصفاً إياها بأنها “لحظة تاريخية”. وقد تضمنت الهدنة التزاماً إيرانياً غير معلن بوقف التصعيد العسكري وتجميد الأنشطة النووية الحساسة مؤقتاً، دون توقيع رسمي. وفي مؤتمر صحفي، صرح ترامب أن “زمن الفوضى في الشرق الأوسط يوشك على الانتهاء”، داعياً إلى إطلاق مشروع تنموي إقليمي يرتكز على الابتكار، والتكامل الاقتصادي، وبناء بنى تحتية مشتركة.
ورغم أن تفاصيل الاتفاق لم تُعلن رسمياً، إلا أنه مثّل نقطة تحوّل فارقة في المشهد الإقليمي، وُصفت إعلامياً بـ “هدنة الفرصة الأخيرة”. وفي مؤتمر صحفي، أشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أن “الشرق الأوسط يقف أمام لحظة تاريخية”، معتبراً أن “إيران منهكة، وإسرائيل تتطلع نحو الاستثمار، وهناك فرصة نادرة ينبغي اغتنامها”.
وعلى صعيد آخر تفاعلت الأسواق بحذر مع هذه الأجواء، حيث سجّلت أسعار النفط تراجعاً ملحوظاً خلال الساعات الأولى من إعلان الهدنة، وسط تفاؤل نسبي بعودة ملف التنمية إلى الواجهة بعد سنوات من التصعيد والحروب بالوكالة.
في المقابل، تنوّعت ردود الفعل في الشارع العربي بين ترحيب حذر بالتهدئة، وتشكك في ديمومتها. فبينما أبدت بعض النخب الاقتصادية اهتماماً بإمكانيات الانفتاح والتكامل، بقيت قطاعات واسعة من الرأي العام متأثرة بجراح الحروب وبفقدان الثقة في الوعود الدولية. فوسائل الإعلام العربية بدت منقسمة: بعضها احتفى بالهدنة كفرصة، فيما رأى آخرون أنها مجرد “استراحة مقاتل” ستنتهي عند أول اختبار حقيقي.
من جهة أخرى تلعب الولايات المتحدة حالياً دوراً مزدوجاً: دعم ثابت لإسرائيل مع ضبط وتيرة التصعيد لتجنب حرب إقليمية تضعف نفوذها العالمي. فأما أوروبا، كعادتها، تكتفي بالمراقبة والدعوات إلى التهدئة دون أدوات تأثير حقيقية.
وفي خضم هذا المشهد، تتشكل معالم شرق أوسط جديد. لا مركز موحداً للقرار، ولا مشروعاً سياسياً شاملاً. بل تحكم المنطقة تحالفات مرنة، محاور نفوذ مؤقتة، وضربات محسوبة. ولم تعد الشعارات الكبرى مثل “الممانعة” أو “الوحدة العربية” أو “التحرير الكامل” تُقنع أحداً. لقد حلّت مكانها مفاهيم الاستقرار والبقاء وتوازن المصالح.
ومع ذلك، فإن ملامح هذا “الاستقرار الجديد” لا تشير إلى نظام إقليمي ناضج، بل إلى ما يمكن تسميته بـ “إدارة الإنهاك”؛ حيث تعب الجميع من الحرب، ومن دون أن يربح أحد بالكامل. شرق أوسط تتحكم فيه لحظات الإنهاك أكثر من مشاريع الانتصار. وتُدار النزاعات فيه بحد أدنى من التصعيد، وتُبنى التحالفات فيه على مبدأ: دعني أتنفس… ولن أعارض تنفسك. إنه شرق أوسط لا يحتفل بانتصاراته، بل يتنفس تحت الركام، بانتظار فرصة للشفاء لا للسيطرة.
إلا أن بعض القوى، وعلى رأسها إسرائيل وبعض دول الخليج، بدأت تنظر إلى هذا الإنهاك الجماعي كفرصة تاريخية لإعادة توجيه الأولويات. حيث يدرك صانع القرار الإسرائيلي اليوم أن الاقتصاد بات عمقاً استراتيجياً جديداً. فالمشاريع التكنولوجية، وقطاعات الابتكار، واتفاقات الشراكة الإقليمية، لا يمكن أن تزدهر وسط دوامة صراع مستمر. فمن هنا، تميل إسرائيل إلى نموذج السلام البارد أو التهدئة المستقرة، حيث يشكّل الاستقرار بوابة نحو أسواق عربية واسعة وعمقاً جيوسياسياً يصعب تعويضه. في هذا السياق، لم يعد شرق أوسط مزدهر وآمن مجرد مصلحة للآخرين، بل استثماراً استراتيجياً لإسرائيل نفسها.
--------
نينار برس