الأشباح هذا العام كثيرة في كان. فالكل حبس أنفاسه في انتظار الحكومة الفرنسية الجديدة التي أعلن عنها الأربعاء بعد إرجائها الثلاثاء، ولم يبخل الصحافيون وخصوصا الأجانب منهم بالتندر عند التأخير بدقائق في عرض فيلم افتتاح الدورة السبعين للمهرجان السينمائي الدولي "الفرنسيون متأخرون دائما، فحتى الحكومة لم يعلن عنها في اليوم المتوقع..." في الأثناء، تفرض السينما قانونها.
نادرا أن يعرض فيلم "المؤلف" على غرار "أشباح إسماعيل" لأرنو ديبليشان في افتتاح مهرجان كان، لا سيما الأفلام الفرنسية منها. فعادة ما تكون هذه الحصة من نصيب الأفلام الهوليوودية الطنانة على غرار "غاتسبي لو مانيفيك" و"مقهى سوسايتي" و"غريس دي موناكو" التي أعطت شارة انطلاق الدورات السابقة. المرات القليلة التي تم فيها التخلي عن هذه العادة كانت الأسباب ظرفية، ففي العام 2015 اختير فيلم فرنسي أيضا وهو "مرفوع الرأس" لإيمانويل بيركو. وجاءت فيه عبر قصة قاضية (كاترين دونوف) ساعدت فتى على تجاوز حالته النفسية والاجتماعية المتردية، إشادة بالمؤسسات الفرنسية في عام عرفت فيه البلاد عدة هجمات إرهابية دامية.
ووضعت السلطات على الكروازيت صفا مكونا من 400 حوض للزهور عملاقة، وتلك النباتات الجميلة ليست للزينة بل إنها إجراء أمني لمنع هجمات إرهابية خلال المهرجان. فهذه الدورة هي الأولى منذ هجوم وقع في مدينة نيس القريبة في يوليو/تموز الماضي داس فيه تونسي على متن شاحنة حشدا من المحتفلين بالعيد الوطني الفرنسي وقتل العشرات. وتشكل هذه الأحواض العملاقة حواجز أسمنتية مموهة لمنع هجوم مشابه بسيارة أو شاحنة. وإضافة إلى عدسات المراقبة، وضعت الشرطة 160 مترا من السلاسل المعدنية المسننة التي بإمكانها وقف عربة خطيرة، ونشرت قوات إضافية ودعت كتيبة من المتطوعين المدنيين لإبلاغها بأي أنشطة مريبة.
قد يكون اختيار فيلم "أشباح إسماعيل" لأرنو ديبليشان لافتتاح الدورة السبعين للمهرجان يهدف لإضفاء لمسة فرنسية على أحد أعرق المهرجانات في العالم، والذي تفتخر به البلاد. من جهة أخرى قد يلائم هذا الاختيار الظرف الانتخابي بعد اختتام السباق إلى الإليزيه في 7مايو/أيار مع انتخاب إيمانويل ماكرون رئيسا، وانطلاق التشريعيات في يونيو/حزيران. ويرى العديد في انتخاب ماكرون الشاب المثقف مؤشر تغيير في البلاد.
من الفرضيات الأخرى، وليست الوحيدة، التي تقف وراء اختيار ديبليشان، هي عرض فيلمه "ثلاث ذكريات من شبابي" العام 2015 ضمن قسم "أسبوعي المخرجين" ما أغضب الصحافة الفرنسية التي اتهمت المندوب العام تيري فريمو بإقصاء أحد أكبر المخرجين من الجيل الصاعد. ورد آنها فريمو أنه حين يختار مخرجين من هذه الفئة تتهمه الصحافة بأنه يختار دائما نفس المتسابقين، وحين يختار غيرهم يتهمونه بالإقصاء.
فهل كان اختيار أرنو ديبليشان ضمن أعضاء لجنة التحكيم للعام 2016 ثم في فيلم الافتتاح لهذا العام، هدية "مواساة".؟ في كل الأحوال الصحافة تهيج وتموج في كل مرة، فالبعض يرى في هذا الاختيار الشرفي أن الفيلم غير صالح للمسابقة، وفي نفس الوقت فإن طاقم الممثلين بنجومه ماريون كوتيار وشارلوت غانزبورغ وماتيو أمالريك ولويس غاريل يجعله لائقا ومناسبا لعرض افتتاحي. طالت الانتقادات أيضا مدة الفيلم الذي يعرض في كان بنسخة تدوم ساعة و54 دقيقة في حين سيعرض في القاعات بنسخة ساعتين و14 دقيقة، ولا جواب رسمي عن سبب هذا "التقصير".
هكذا إذا تختلط دائما في كان الملفات الحساسة، فالسياسة والصناعة والصداقات داخل الوسط تتشابك في حبكة معقدة لا مفر منها. ويشار إلى أن ماتيو أمالريك الذي يتقمص دور المخرج "إسماعيل" في فيلم ديبليشان، هو أيضا مخرج في الواقع ويفتتح فيلمه "باربارا" قسم "نظرة ما" وتتقمص فيه دور المغنية الشهيرة شريكة حياته السابقة جان باليبار. وهذا الجيل من المخرجين والممثلين المتألقين يمثلون حقا "الاستثناء" الثقافي الفرنسي. وتتبارى هذا العام 4 أفلام فرنسية في السباق نحو السعفة الذهبية من مجمل 19 فيلما.
ويزخر فيلم ديبليشان بالمراجع الثقافية المعقدة، من تلك التي توجع أعصاب رئيس التحرير، ففيه تلميحات للأدب الروسي والتاريخ الأوروبي لا سيما من منظور إبادة اليهود، والرسم الإيطالي... فـ"إسماعيل" يصور فيلما عن شخصية تكاد تكون دوستويفسكية، لدبلوماسي جاسوس مستلهم من قصة أخيه إيفان الذي يجيد لغات عدة (على غرار جان باليبار !) . أمالريك مولع بتقمص المخرجين والتماهي معهم، وهي سادس تجربة له مع ديبليشان.
فكأن الأخ الحقيقي للممثل هو المخرج، ولا يبخل ديبليشان بالإشارة إلى هذا الازدواج عبر توظيف لوحة "الزوجان أرنولفيني" من العام 1434 للرسام الهولندي جان فان إيك (مدرسة الفلامنكيين الأوليين). ففي هذه اللوحة التي ألهمت تقنياتها فيلاسكاس الرسام الإسباني الشهير للقرن الذهبي (السابع عشر) ولا سيما "لاس مينيناس"، تدخل "العين الثانية" للمرة الأولى في تاريخ الفن الغربي عبر تعميق الزاوية بوضع مرآة وراء الشخصيات. في فيلم ديبليشان، يصور المخرج نفسه عبر "زوجه" أمالريك الذي يصور بدوره فيلما يعرض على الشاشة من خلال "عدسة" مصغرة. وعلى غرار "الزوجة أرنولفيني" تحبل "سيلفيا" الحب الجديد لإسماعيل...
أكثر من الأشباح، تبعث مراجع ديبليشان، وهي من العيار الثقيل، على الإغماء. سألناه من يختار لو أتيح له تناول العشاء مع أشباح مخرجين فقال لفرانس24 "تروفو الذي لم يسعفني الحظ بلقائه وبرغمان" ويضيف "أما الثالث فالأمر معقد... ربما هيتشكوك لكن أخاف ألا ينطق بكلمة أو أن يحول العشاء لمزحة أو...ألا أتمكن أبدا من معرفة سره". أفلام الرعب وأفلام الحب، الدين والفلسفة، معرفة الأسرار هو محرك المخرج وهوسه لا يملك حدودا. ماريون كوتيار صورت فيلما مع ديبليشان قبل 20 عاما، فهل هي الشبح الذي يعود في شكل "كارلوتا ؟
لم تندمل جراح إسماعيل المعذب منذ عشرين عاما بعد وفاة زوجته كارلوتا، ولم تهدأ نفس والدها "بلوم" صديق ومعلم إسماعيل. لكن حين أوشك إسماعيل على الرجوع إلى حياة سعيدة مع سيلفيا التي وقع في حبها، تعود كارلوتا، التي اعتبرتها السلطات ميتة، إلى الظهور. تهرب سيلفيا في حين يرفض إسماعيل رجوع كارلوتا فيكاد أن يصير مجنونا ويترك تصوير فيلمه ليحتمي بالبيت العائلي حيث تنهشه الذكريات.
يقول ديبليشان لفرانس24 "الأشباح عديدة، منها أشباح الذنب والندم التي نجرها وراءنا محاولين أن نتقدم في الحياة". ولا يخشى المخرج باللعب "بالأساطير" فكارلوتا هي شخصية "شبح الأوبرا" وبطلة "فيرتيغو" لهيتشكوك، فيؤكد "أحب أن أتجرأ على ذلك دون أن أثقل شخصية كوتيار بل بالعكس ستكون مختلفة عن كيم نوفاك وفي نفس الوقت أتمكن من تكريم معلميّ".
أراد الـمنظمون للدورة السبعين لمهرجان كان أن تكون "مرحة وحرة وجريئة"، فلنضف بعد أن شاهدنا فيلم ديبليشان "مثقفة وعميقة"... استثنائية.
نادرا أن يعرض فيلم "المؤلف" على غرار "أشباح إسماعيل" لأرنو ديبليشان في افتتاح مهرجان كان، لا سيما الأفلام الفرنسية منها. فعادة ما تكون هذه الحصة من نصيب الأفلام الهوليوودية الطنانة على غرار "غاتسبي لو مانيفيك" و"مقهى سوسايتي" و"غريس دي موناكو" التي أعطت شارة انطلاق الدورات السابقة. المرات القليلة التي تم فيها التخلي عن هذه العادة كانت الأسباب ظرفية، ففي العام 2015 اختير فيلم فرنسي أيضا وهو "مرفوع الرأس" لإيمانويل بيركو. وجاءت فيه عبر قصة قاضية (كاترين دونوف) ساعدت فتى على تجاوز حالته النفسية والاجتماعية المتردية، إشادة بالمؤسسات الفرنسية في عام عرفت فيه البلاد عدة هجمات إرهابية دامية.
ووضعت السلطات على الكروازيت صفا مكونا من 400 حوض للزهور عملاقة، وتلك النباتات الجميلة ليست للزينة بل إنها إجراء أمني لمنع هجمات إرهابية خلال المهرجان. فهذه الدورة هي الأولى منذ هجوم وقع في مدينة نيس القريبة في يوليو/تموز الماضي داس فيه تونسي على متن شاحنة حشدا من المحتفلين بالعيد الوطني الفرنسي وقتل العشرات. وتشكل هذه الأحواض العملاقة حواجز أسمنتية مموهة لمنع هجوم مشابه بسيارة أو شاحنة. وإضافة إلى عدسات المراقبة، وضعت الشرطة 160 مترا من السلاسل المعدنية المسننة التي بإمكانها وقف عربة خطيرة، ونشرت قوات إضافية ودعت كتيبة من المتطوعين المدنيين لإبلاغها بأي أنشطة مريبة.
قد يكون اختيار فيلم "أشباح إسماعيل" لأرنو ديبليشان لافتتاح الدورة السبعين للمهرجان يهدف لإضفاء لمسة فرنسية على أحد أعرق المهرجانات في العالم، والذي تفتخر به البلاد. من جهة أخرى قد يلائم هذا الاختيار الظرف الانتخابي بعد اختتام السباق إلى الإليزيه في 7مايو/أيار مع انتخاب إيمانويل ماكرون رئيسا، وانطلاق التشريعيات في يونيو/حزيران. ويرى العديد في انتخاب ماكرون الشاب المثقف مؤشر تغيير في البلاد.
من الفرضيات الأخرى، وليست الوحيدة، التي تقف وراء اختيار ديبليشان، هي عرض فيلمه "ثلاث ذكريات من شبابي" العام 2015 ضمن قسم "أسبوعي المخرجين" ما أغضب الصحافة الفرنسية التي اتهمت المندوب العام تيري فريمو بإقصاء أحد أكبر المخرجين من الجيل الصاعد. ورد آنها فريمو أنه حين يختار مخرجين من هذه الفئة تتهمه الصحافة بأنه يختار دائما نفس المتسابقين، وحين يختار غيرهم يتهمونه بالإقصاء.
فهل كان اختيار أرنو ديبليشان ضمن أعضاء لجنة التحكيم للعام 2016 ثم في فيلم الافتتاح لهذا العام، هدية "مواساة".؟ في كل الأحوال الصحافة تهيج وتموج في كل مرة، فالبعض يرى في هذا الاختيار الشرفي أن الفيلم غير صالح للمسابقة، وفي نفس الوقت فإن طاقم الممثلين بنجومه ماريون كوتيار وشارلوت غانزبورغ وماتيو أمالريك ولويس غاريل يجعله لائقا ومناسبا لعرض افتتاحي. طالت الانتقادات أيضا مدة الفيلم الذي يعرض في كان بنسخة تدوم ساعة و54 دقيقة في حين سيعرض في القاعات بنسخة ساعتين و14 دقيقة، ولا جواب رسمي عن سبب هذا "التقصير".
هكذا إذا تختلط دائما في كان الملفات الحساسة، فالسياسة والصناعة والصداقات داخل الوسط تتشابك في حبكة معقدة لا مفر منها. ويشار إلى أن ماتيو أمالريك الذي يتقمص دور المخرج "إسماعيل" في فيلم ديبليشان، هو أيضا مخرج في الواقع ويفتتح فيلمه "باربارا" قسم "نظرة ما" وتتقمص فيه دور المغنية الشهيرة شريكة حياته السابقة جان باليبار. وهذا الجيل من المخرجين والممثلين المتألقين يمثلون حقا "الاستثناء" الثقافي الفرنسي. وتتبارى هذا العام 4 أفلام فرنسية في السباق نحو السعفة الذهبية من مجمل 19 فيلما.
ويزخر فيلم ديبليشان بالمراجع الثقافية المعقدة، من تلك التي توجع أعصاب رئيس التحرير، ففيه تلميحات للأدب الروسي والتاريخ الأوروبي لا سيما من منظور إبادة اليهود، والرسم الإيطالي... فـ"إسماعيل" يصور فيلما عن شخصية تكاد تكون دوستويفسكية، لدبلوماسي جاسوس مستلهم من قصة أخيه إيفان الذي يجيد لغات عدة (على غرار جان باليبار !) . أمالريك مولع بتقمص المخرجين والتماهي معهم، وهي سادس تجربة له مع ديبليشان.
فكأن الأخ الحقيقي للممثل هو المخرج، ولا يبخل ديبليشان بالإشارة إلى هذا الازدواج عبر توظيف لوحة "الزوجان أرنولفيني" من العام 1434 للرسام الهولندي جان فان إيك (مدرسة الفلامنكيين الأوليين). ففي هذه اللوحة التي ألهمت تقنياتها فيلاسكاس الرسام الإسباني الشهير للقرن الذهبي (السابع عشر) ولا سيما "لاس مينيناس"، تدخل "العين الثانية" للمرة الأولى في تاريخ الفن الغربي عبر تعميق الزاوية بوضع مرآة وراء الشخصيات. في فيلم ديبليشان، يصور المخرج نفسه عبر "زوجه" أمالريك الذي يصور بدوره فيلما يعرض على الشاشة من خلال "عدسة" مصغرة. وعلى غرار "الزوجة أرنولفيني" تحبل "سيلفيا" الحب الجديد لإسماعيل...
أكثر من الأشباح، تبعث مراجع ديبليشان، وهي من العيار الثقيل، على الإغماء. سألناه من يختار لو أتيح له تناول العشاء مع أشباح مخرجين فقال لفرانس24 "تروفو الذي لم يسعفني الحظ بلقائه وبرغمان" ويضيف "أما الثالث فالأمر معقد... ربما هيتشكوك لكن أخاف ألا ينطق بكلمة أو أن يحول العشاء لمزحة أو...ألا أتمكن أبدا من معرفة سره". أفلام الرعب وأفلام الحب، الدين والفلسفة، معرفة الأسرار هو محرك المخرج وهوسه لا يملك حدودا. ماريون كوتيار صورت فيلما مع ديبليشان قبل 20 عاما، فهل هي الشبح الذي يعود في شكل "كارلوتا ؟
لم تندمل جراح إسماعيل المعذب منذ عشرين عاما بعد وفاة زوجته كارلوتا، ولم تهدأ نفس والدها "بلوم" صديق ومعلم إسماعيل. لكن حين أوشك إسماعيل على الرجوع إلى حياة سعيدة مع سيلفيا التي وقع في حبها، تعود كارلوتا، التي اعتبرتها السلطات ميتة، إلى الظهور. تهرب سيلفيا في حين يرفض إسماعيل رجوع كارلوتا فيكاد أن يصير مجنونا ويترك تصوير فيلمه ليحتمي بالبيت العائلي حيث تنهشه الذكريات.
يقول ديبليشان لفرانس24 "الأشباح عديدة، منها أشباح الذنب والندم التي نجرها وراءنا محاولين أن نتقدم في الحياة". ولا يخشى المخرج باللعب "بالأساطير" فكارلوتا هي شخصية "شبح الأوبرا" وبطلة "فيرتيغو" لهيتشكوك، فيؤكد "أحب أن أتجرأ على ذلك دون أن أثقل شخصية كوتيار بل بالعكس ستكون مختلفة عن كيم نوفاك وفي نفس الوقت أتمكن من تكريم معلميّ".
أراد الـمنظمون للدورة السبعين لمهرجان كان أن تكون "مرحة وحرة وجريئة"، فلنضف بعد أن شاهدنا فيلم ديبليشان "مثقفة وعميقة"... استثنائية.