ترافقت هذه الإجراءات مع تصريحات إيجابية من الرئيس الأمريكي تجاه الحكومة السورية، والدعوة إلى عدم التدخل في شؤونها، ومنحها الفرصة من جديد للاستقرار والنمو، واستعادة وضعها الطبيعي في العالم، مع إعلان الذهاب لرفع اسم سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والمدرَج على القائمة منذ عام 1979.
هذه الخُطوات تطوي صفحة من تاريخ العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وسوريا، وتفتح صفحة جديدة تقوم على دعم الحكومة السورية الجديدة بعد زوال نظام بشار الأسد، وعلى احترامها ومنع التدخل في شؤونها الداخلية من أيّ طرف خارجي على المستوى الإقليمي والدولي، وبالمثل منحها فرصة ترتيب شؤونها الداخلية بين مكوناتها دون دعم طرف على حساب آخر، وبما يمنع الحديث أو المطالب التي تطالب بها بعض المكوّنات في إرادة فرض حكم ذاتي على مناطقها، أو إقامة أقاليم خاصة بها داخل حدود الدولة السورية.
هذا التوجه الأمريكي ظهر في تصريح المبعوث الأمريكي بعد يوم من لقائه بالرئيس الشرع في إسطنبول، حيث قال: إنّ الولايات المتحدة لن تُكرّر خطأ اتفاقية "سايكس بيكو" التي فرضتها القُوى الاستعمارية قبل قرن من الزمان لتحقيق مكاسبها، وليس من أجل إرساء السلام في المنطقة، وإن عصر التدخلات الغربية ولّى، وإنّ المستقبل يكمن في الحلول الإقليمية، وفي الشراكات، وفي دبلوماسية قائمة على الاحترام، وإن مأساة سوريا وُلدت من الانقسام، وإن ولادتها الجديدة يجب أن تأتي من خلال الكرامة والوحدة والاستثمار في شعبها.
أثار التعريض باتفاقية "سايكس بيكو" لغطاً حول وجود تغيُّر في سياسة الولايات المتحدة بشأن خرائط الدول القائمة حالياً، والحدود المرسومة بينها، واحتمال إعادة النظر فيها، لكن التصريح الحالي فعلياً ينفي مثل هذه المفاهيم، فالولايات المتحدة لا تريد وقوع الخطأ مرة ثانية في "التدخل الغربي" في شؤون المنطقة وسوريا، بما في ذلك إعادة ترسيم الحدود بين دولها، أو تقسيمها.
هذا الرأي ليس جديداً للمبعوث الأمريكي، فهو كان قد نُشر في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، أي قبل أسبوعين ونيّف من فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بولايته الأولى في مقال ضِمن مجلة (Fortune) بعنوان "ما يحتاجه الشرق الأوسط الآن من أمريكا"، تطرق فيه إلى خطأ "سايكس بيكو"، وأن معالجة مشاكل المنطقة تكمن في دعم جهود الجيل الجديد من القادة العرب في الإمارات وقطر والسعودية، الذين يرسمون سياسات استشرافية لبناء شرق أوسط جديد بفعالية، وأنهم على غرار الحكام الآسيويين الذين أطلقوا "اقتصادات النمور" منتصف القرن العشرين وأواخره، يسعون إلى سياسات تهدف إلى التنمية الاقتصادية والتعليمية، بما يضمن أولاً تخفيف التوترات الداخلية، ويضمن ثانياً مكانة بُلدانهم المستحقة في مستقبل تهيمن عليه التجارة العالمية.
إلى جانب "سايكس بيكو" يرى المبعوث الأمريكي أنّ صعود الحرس الثوري قبل 4 عقود هو الذي تسبَّب في الانقسام الطائفي في المنطقة، وأن مصلحة حلفاء الولايات المتحدة -ومنهم مصر والأردن وفلسطين إضافة إلى إسرائيل- في إنهاء هذه الانقسامات، حيث سيُوفر إنهاء الانقسامات توازُناً مقابِلاً للحرس الثوري الإيراني، وللطموحات الإقليمية التي يُغذّيها الدفع الروسي في المنطقة.
مع سقوط نظام الأسد فإن جميع الظروف التي يتحدث عنها المبعوث صارت مواتية لتكون سوريا ضِمن هذا المشروع الذي يحقق أمل المنطقة في الاستقرار والنمو، فالدور الإيراني في أشدّ درجات ضعفه، والتفاهُمات العربية التركية تسير في مَسار إيجابي، والحكومة الجديدة فكّت ارتباط سوريا بإيران بشكل جذري، وأعلنت عن سياستها صراحة في دخولها في المحور العربي الغربي على حساب تَخلِّيها عن المحور الإيراني الروسي، إضافة إلى صعود العلاقات التركية الأمريكية بعد أزمات مرت بها في فترة الرئيس الأمريكي السابق "بايدن".
ضِمن هذه المعطيات، وضِمن رؤية الولايات المتحدة التي أعلن عنها ترامب في عدم التدخل في شؤون المنطقة وتركها لأبنائها الذين يعيشون فيها، "ويطورون بلدانهم السيادية، ويحققون رؤاهم الفريدة، ويرسمون مصائرهم بطريقتهم الخاصة"، فإن هذا يؤكد على أن الولايات المتحدة ستنهج في سوريا -باعتبارها جزءاً من هذا المشروع- النهجَ ذاتَهُ الذي تتعامل به مع دول الخليج العربي وتركيا، وهي رسالة واضحة المعالم إلى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في أن الولايات المتحدة لن تتدخل في شؤون سوريا الداخلية إلى جانب طَرَف على حساب آخر مهما كان، ولن تعود لتكرار خطأ "سايكس بيكو" في رسم حدود على الورق تنعكس صراعات على الأرض، وتُهدد مشروع استقرار المنطقة بأكملها.
وكما أن هذه الرؤية ليست جديدة عند المبعوث الأمريكي فهي أيضاً ليست جديدة عند الرئيس ترامب وحزبه الجمهوري، حيث يعتقدون خطأ الرؤية الأمريكية السابقة للحزبين الجمهوري والديمقراطي معاً، والتي كان عنوانها "بناء الأمم"، أي فرض القِيَم الديمقراطية، وحقوق الإنسان وَفْق المفهوم الأمريكي على دول أخرى في الخارج، ولو كلف ذلك التدخل العسكري.
بناء الأمم ثبت فشله من وجهة نظر ترامب وفريقه ضِمن الحزب الجمهوري، وهو ما ظهر في ولايته الأولى (2016- 2020) فأعلن نيته سحب القوات الأمريكية من أفغانستان والعراق وسوريا، ورأى أنَّ الصراع ليس صراعاً حضارياً، وإنما هو صراع مصالح اقتصادية، وهو ما يدفع ترامب اليوم لإعادة بناء تحالُفاته لمواجهة الصين المنافس الاقتصادي الأكبر للولايات المتحدة.
بالمحصِّلة تبدو العلاقات الأمريكية السورية في طَوْر جديد حقيقي وإستراتيجي يُسهم في استقرار سوريا وازدهارها على الصعيد الداخلي، ويُسهم في الاستقرار الدولي والإقليمي، على وجه الخصوص في الملفات الشائكة العديدة الموروثة عن النظام السابق مثل ملفات عودة اللاجئين، ومنع إنتاج المخدرات وتصديرها، ومكافحة الإرهاب، وملفّ الأسلحة الكيميائية، واحترام حقوق الإنسان.