نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

عن روسيا وإيران شرق المتوسّط

08/05/2024 - موفق نيربية

( في نقد السّياسة )

05/05/2024 - عبد الاله بلقزيز*

أردوغان.. هل سيسقطه الإسلاميون؟

03/05/2024 - إسماعيل ياشا

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى


الخراب متماسكاً في قصيدة يوسف بزي






الشعر ضالة يوسف بزي الأولى، وواحدة من ضالاّته الكثيرة التي من بينها كتاباته الثقافية والشخصية. يعود إليه اليوم بمجموعة «في فم الغراب» (دار رياض الريس)، مقدماً للقارئ اقتراحاً مغايراً للقصيدة. كتابه يحمل مكر مانيفستو أكثر من كونه مجرد محاولة لإنتاج واقع شعري يطارد السياسة ويزجُّها بقسوة في المجاز


 . آخر دواوين يوسف بزي الشعرية كان قبل أحد عشر عاماً. يومها صدر له «بلا مغفرة» عن دار النشر ذاتها، لينعطف بعدها نحو التزام السياسة في ما يعتبره «الممارسة الثقافية» كواجب أسمى لكَ إذا أردت أن تكون شاعراً. نزوعه إلى السياسة مهد لموقفه اللاحق من القصيدة، وإعادته النظر في بنيتها وذهنيتها من جديد، ليعود ويرسم شكلاً شعرياً يسعى إلى أن يقطع مع كل ما سبق. خصوصاً أن كل ما أنتج من أطوار وأنواع من قصيدة التفعيلة إلى «المقاوِمة» واليومية والحداثوية وما بينهما وبعد، ساد في ظل إيديولوجيات مستبدة فرضت نفسها إما لتعارض نظاماً أو لكي تتبرَّج بآثاره.
بيوغرافيا يوسف بزي، وتماسه «القسري» مع الحروب، صقل فيه مزيجاً من كينونتين ملتصقتين بعضهما ببعض، واحدة شعرية وأخرى سياسية. لم نعرف يوماً كيف يبدو شكل الجديلة التي يشتبكان عندها. أو ربما لم نكن نعرف بالضبط قبل قراءة «في فم الغراب». في هذا الكتاب، نصوصه أشبه بحوار حاد بين هاتين الطبيعتين المتعارضتين للوهلة الأولى. الشاعر لا يدير ظهره لما يحصل حواليه على مستوى الحدث العام أو الجغرافيا. الخراب حين يتكاثر يستدعي أن نعالجه بالمجاز. المجاز الجميل والصارم في آن. يوسف بزي يكتب كأنه عابس طوال الوقت. بقلم في يد ومشرط في اليد الأخرى. نقرأ فيجرحنا على غفلة منا. يكثف عبارته الشعرية ويختزلها مع حرصه على إبقائها في سياق مشهدي. وإلى جانب تثبيته الواقع كمصدر للمواد الأولية في قصيدته، فإن بزي يلتزم منطقاً حكائياً في نصوصه، بصرياً، ما يجعل التحايل على الواقع «المألوف»، مسألة تستلزم إعادة إنتاج هذا الواقع من الأساس ومن ثم تبديده شعرياً. لا نعود نتلقى الأشياء تماماً كما نعرفها. ونخرج في النهاية بقصيدة كما لو أنها متتالية من التحولات البصرية التي لا تهدأ إلا بعد ان تضع بعداً جديداً لحكاية أو حادثة ظننا بأنّا ألفناها جيداً. الشعر هنا ليس بحثاً عن حقيقة ما، حقيقة مريرة، بقدر ما هو تتويج ماكر لها. سيسقط الواقع في نهاية الأمر عن كتفي القصيدة. وسيحضر أمامنا نص مملوء عن عمد بالإشارات الناقمة. الشعر أخيراً ينال من هزيمتنا.
في القسم الأول «تمرين حرّ بين السياسة والمعنى» من المجموعة، تتخذ نصوص بزي صيرورة ملحمية. تسعى إلى صعق القارئ بخفوت. تكثف العنف، وكل ما يمت إلى العدمية بصلة، وتبحث في التحول العبثي للأشياء، كما لو أنها كتابة لا تريد أن تزكّي المعنى، ولا أن تدل عليه. فالخراب هو المقصد الأول. والمعنى يصبح حاصل هذه الكثافة الصورية المرعبة التي ينظمها بزي ولا يدع فيها مجالاً لعبور ولو نَفَس. الشعر يوازي الواقع هنا في التباسه على الإنسان وقدرته على إحداث الفزع ورسم القلق والمهول كتركة نهائية. صوره الماكرة يخبئها في البساطة الآسرة لجملته، كأن يقول «جملة مرتعشة على جدار» أو السم يسهر على شفاهنا» أو «حين كان صوتك يفكك الجنود».
يصل القارئ إلى الجملة الأخيرة في كل قصيدة مفرغاً من السكينة التي يخلّفها الشعر عادة، سيكون قارئاً منهكاً ومصدوماً، مشبعاً بالتراجيديات القريبة في أمزجتها من ذاكرته. لن نعثر على قصيدة هجينة عنا، أو مترفعة. لا وقت لذلك. ونحن محكومون بالالتفات إلى علاقة جدلية بين الهلاك لحماً وجوعاً وإسمنتاً من جهة، والجماليات المستأصلة بـ»عنف» مواز لعنف ذلك الهلاك، من جهة أخرى. سندرك أننا تعثرنا خلال القراءة بمستويات من الخراب، سواء في السياق الكتابي «غير المعتاد»، أو في التقارب الخبيث لكائنات العالم بعضها من بعض («والطيور مكتظة فوق اللحم الأزرق»)، أو في تحولات القصيدة المفرغة لوهلة من الشعور: «كل المتوقع والمتعذر/ كل الخامد الذي يشرع في العمل/ كل المفاجئ الذي ينشطر/ كل الجثامين المغطاة بمكعبات الثلج»).
قصيدة يوسف بزي لا تطلب شيئاً من القارئ بقدر ما تعيد تعبئة محيطه الشخصي. يلغي الشاعر كل خصوصية محتملة لحدث ما، وتصبح القصيدة منظومة من المقترحات المجازية التي تتمدد كلما أمعنا في القراءة. إننا إزاء عمل تسجيلي للواقع النيء، بصيغة كوابيس.
في «موسيقى الحياة العامة»، قسم المجموعة الثاني، تنطلق القصيدة من علاقة بصرية فجة بين الشاعر والفضاء الممكن. إننا هنا في أمكنته. في ملاذه الهادئ، أو الفناء الخلفي الذي يلجأ إليه بعد أن وضع كل الخراب في بيته الشعري بالأول. هي أمكنة يبدو النشاط الإنساني فيها بقوة همس في أذن العدم. تحضر بإيقاع مختلف تماماً. هي بحد ذاتها أمكنة منهَكة، إنها ذاكرة خراب ما، كأنها نيغاتيف لاحق لما يرد في قسم الكتاب الأول، «كل شيء يتحرك أقل/ كل شيء ينطفئ في عمق الساعة».
---------
الحياة

مازن معروف
السبت 12 ديسمبر 2015