ففي حين تشهد الساحة السورية تحولات لافتة، تُظهر قدرة نسبية على إدارة التحديات الداخلية والخارجية والتوفيق بينها، مدفوعة بجولات دبلوماسية مكّوكية غير مسبوقة تقودها وزارة الخارجية السورية، تستمر طهران في التخبط بين التصريحات المتناقضة والمواقف المرتبكة، بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على سقوط نظام الأسد وخروج القوات الإيرانية من المشهد السوري.
لذلك، لا يمكن قراءة التحوّل اللافت في خطاب طهران تجاه سوريا، والذي بات يتبنى مفردات كـ"الحكومة الشاملة" و"حماية الأقليات"، إلا في سياق الخسارة الاستراتيجية التي منيت بها، وخروجها الفعلي من المعادلة الميدانية والسياسية في سوريا. فبعيداً عن نبرة التصعيد والتحدي التي كانت سمة الخطاب الإيراني لعقد من الزمن، تتجه طهران اليوم نحو خطاب ناعم يحاكي أدبيات المجتمع الدولي ودول الغرب التي طالما نعتها بـ"العدائية" و"التآمرية"، في محاولة مكشوفة للحفاظ على هامش حضور سياسي، ولو من موقع المراقب العاجز، بعدما أصبحت خارج اللعبة.؟
تبدّل الخطاب الإيراني: من التهديد إلى خطاب "الحكومة الشاملة"
في كلمة له خلال منتدى السليمانية في إقليم كردستان العراق، أعاد نائب وزير الخارجية الإيراني، سعيد خطيب زاده، تكرار السردية القديمة التي طالما استخدمتها طهران لتبرير تدخلها في سوريا، والمبنية على "الخوف من ما بعد الأسد". وأكد في معرض رده على الانتقادات الموجهة لدور بلاده في سوريا، أن المخاوف التي دفعت إيران إلى دعم النظام في بداية الثورة ما تزال قائمة.
وأضاف: "في عام 2013 أجرينا حواراً في برلين مع عدد من ممثلي المعارضة السورية، وسألني أحدهم بإلحاح: لماذا تصرون على دعم الأسد؟ فأجبته: نحن قلقون مما قد يحدث بعد سقوطه، نخشى على سوريا من الاحتلال، ومن سيطرة داعش والسلفيين، ومن أن تتولى جماعات متطرفة الحكم وتقصي الآخرين، نحن قلقون على الأقليات، وعلى الشعب السوري ككل".
إصرار خطيب زاده على صلاحية هذه "القائمة من المخاوف" حتى اليوم، يهدف إلى تلميع صورة التدخل الإيراني ورفع المسؤولية عن تبعاته. لكن المفارقة أن كثيراً من الظواهر التي حذر منها المسؤول الإيراني – من انهيار الدولة، إلى الطائفية، إلى تفكك المؤسسات – كانت نتيجة مباشرة للدور الإيراني نفسه، لا لغياب بشار الأسد
ورغم أن خطيب زاده حاول تقديم إيران كطرف يراقب المشهد السوري من بعيد "بحذر واحتياط"، إلا أن هذا الخطاب لا يمكن اعتباره صادقاً أو بريئاً. فالوقائع على الأرض تُكذّب هذا الادعاء، إذ تشير معطيات ميدانية إلى أن طهران كانت تقف خلف إشعال سلسلة من العمليات الدموية التي استهدفت مواقع لقوات الأمن العام في الساحل السوري خلال شهر آذار الماضي.
كما تتقاطع تقارير استخباراتية عدة عند تحميل إيران مسؤولية تشكيل ودعم حركة "أولي البأس"، وهي جماعة مسلحة جديدة تُعرّف عن نفسها كجزء من "المقاومة الإسلامية في سوريا"، وتتوعد بعمليات ضد القوات السورية، والوجود التركي، والإسرائيلي على حد سواء.
ويكشف هذا التناقض الصارخ بين الادعاء بـ"الغياب الحذر" من جهة، والعمل في الخفاء عبر ميليشيات وتنظيمات غير رسمية من جهة أخرى، عم أن إيران تسعى إلى إعادة تموضعها داخل سوريا عبر أدوات هجينة، تمكّنها من الحفاظ على نفوذها من دون تحمل كلفة سياسية مباشرة.
سجل دموي يتعارض مع دعوات الإصلاح
وتثير تصريحات خطيب زاده حول استعداد طهران للمساعدة في تشكيل "حكومة شاملة" في سوريا تساؤلات حول مدى توافقها مع السياسات الداخلية لنظام إيران، الذي يُعرف بقمعه للمعارضة السياسية ورفضه للتعددية.
وكانت طهران قد أقدمت في صيف عام 1988 على تنفيذ مجزرة بحق آلاف السجناء السياسيين من منظمة "مجاهدي خلق" المعارضة، فقد أُعدم هؤلاء المعتقلون من دون محاكمات علنية أو قانونية. ومنذ ذلك الوقت، لم تكشف طهران بعد عن مصير العديد من ضحايا هذه المجزرة، مما يثير تساؤلات حول حقيقة التزام النظام بالشمولية وحقوق الإنسان.
وكشف تسجيل جديد لرجل الدين الشيعي حسين منتظري، خليفة خامنئي في ذاك الوقت عن أدلة إضافية حول مجزرة عام 1988، إذ يثبت أن أفعال طهران، بفتوى من الخميني شخصياً، لم تكن مجرد تصرفات فردية أو ميدانية، بل سياسة مبرمجة من أعلى مستويات النظام.
ويشير منتظري في حديثه إلى أن الخميني أمر بتصفية آلاف الأشخاص فقط بسبب انتمائهم الفكري أو قراءتهم لمنشورات المعارضة، خصوصاً مجاهدي خلق.
وفي وقت لاحق، في عام 2022، خرجت الاحتجاجات الشعبية في إيران عقب وفاة مهسا أميني في حجز "شرطة الأخلاق"، وقد قوبلت هذه الاحتجاجات بعنف من قبل القوات الأمنية، مما أسفر عن مقتل العديد من المتظاهرين.
وفي حين تتبنى طهران خطاباً يدعو إلى "حكومة شاملة" في سوريا، يظل الواقع الداخلي في إيران يعكس سياسة مناقضة لهذا الطرح، إذ تواصل الحكومة قمع الحريات السياسية وتحجيم المعارضة.
وتكمن المفارقة اللافتة في الموقف الإيراني الجديد من سوريا في تقاطع خطابه مع الخطاب الغربي الذي طالما نددت به طهران واعتبرته أداة "أعداء الثورة الإسلامية" للنيل من حلفائها. فدعوة نائب وزير الخارجية الإيراني لتشكيل "حكومة شاملة" في سوريا، وتحذيره من إقصاء الأقليات، تأتي اليوم منسجمة – ولو من حيث الشكل – مع الخطاب الغربي الذي يربط بين التعددية السياسية ورفع العقوبات عن دمشق. وهو الخطاب الذي اعتبرته طهران، لعقود، غطاءً للتدخل الغربي ومحاولة لإضعاف ما تسميه "محور المقاومة".
في مشهد يعكس تحوّلاً لافتاً في الخطاب الإيراني غير الرسمي حيال الملف السوري، أدلى مهدي خانعي زاده، الذي يقدّم نفسه بصفته أستاذاً جامعياً ومحللاً في الشؤون الاستراتيجية، بتصريحات لافتة اعتبر فيها أن إبقاء سوريا في حالة من عدم الاستقرار يُعدّ "أحد أبرز إنجازات إيران في الظروف الحالية". وهاجم خانعي زاده بشكل غير مباشر المواقف الرسمية لطهران، التي دعت مؤخراً إلى احترام آراء السوريين والتشاور مع حكومة دمشق، واصفاً هذه المواقف بـ"السخرية" و"ألعاب الأطفال".
ووصف خانعي النظام الحاكم في دمشق ب "النظام الإرهابي"، مؤكداً على أنه لا ينبغي السماح باستقرار سوريا تحت حكمه. كما حمّل بعض الجهات العسكرية الإيرانية مسؤولية ما وصفه بـ"التقصير" في الحفاظ على نفوذ إيران في سوريا، مشيداً بالدور الذي أداه قاسم سليماني في هذا السياق، عبر دعم نظام الأسد البائد سياسياً وعسكرياً واستشارياً، وصولاً إلى إرسال وحدات قتالية إيرانية لحماية ما اعتبره "عمقاً استراتيجياً" لإيران.
وأضاف خانعي زاده أن "الهزيمة في سوريا شكّلت الضرر الأكبر للأمن القومي الإيراني"، لكنه ختم برسالة حملت طابعاً تهديدياً مبطناً، قائلاً إن "ما جرى ليس النهاية، ويمكن التعويض"، وهي لهجة تتقاطع مع التصعيد الذي بدأ يطفو في تصريحات بعض قيادات الحرس الثوري ومرشد الثورة علي خامنئي مؤخراً، ما يعكس أن طهران، رغم خسارتها الاستراتيجية الواضحة في سوريا، ما تزال تلوّح بأوراق تدخل جديدة، وترفض الإقرار بانتهاء دورها هناك
في تصريحاتٍ له لصحيفة "النهار"، أكد مسؤول إعلامي في "جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا" (أولي البأس) أن الجبهة لا تتلقى دعماً من أي طرف خارجي، سواء كان من إيران أو "حزب الله" أو حتى روسيا، وهو تصريح يتناقض مع المعلومات السابقة حول الدعم الإيراني المستمر لهذه المجموعة في سوريا.
وأضاف المسؤول أن علاقتهم مع "لواء درع الساحل" قد انتهت بعد أحداث الساحل في 6 آذار، مؤكداً أن أحد الأسباب الرئيسية لهذه القطيعة هو الاتهام الذي وجه لـ"الجبهة" بالمسؤولية عن تلك الأحداث.
لكن هذه التصريحات تتناقض بشكل كبير مع بيان سابق صادر عن "أولي البأس" في 7 آذار، أي بعد يوم واحد فقط من أحداث الساحل، حيث أكدت "الجبهة" في بيانها مشاركتها في التصدي لما وصفته "عصابات الإرهاب التكفيري" على عدة محاور في سوريا، كما ادعت أنها حققت انتصاراً على القوات السورية، مما يثير تساؤلات حول مصداقية تبرؤ "الجبهة" من "لواء درع الساحل"، ويعكس تضارباً واضحاً في المواقف.
وتثير التصريحات الأخيرة لمسؤول إعلامي في "أولي البأس" العديد من التساؤلات حول حقيقة تحركات هذه الجبهة وعلاقاتها الخارجية، خصوصاً مع القوى الإقليمية والدولية.
من المؤكد أن هذه التصريحات تكشف عن محاولة واضحة من "أولي البأس" لتنأى بنفسها عن طهران، ما قد يكون محاولة للتخفيف من الاتهامات التي تتزايد حول تبعيتها لإيران، خاصة في ظل الانتقادات التي تتعرض لها وفشل تحركاتها الأخيرة في الساحل السوري.
وأكثر ما يثير الجدل في الفترة الأخيرة هو التوجه الطائفي الذي يتبناه محمود موالدي، والذي ظهر مؤخراً كمسؤول الدائرة السياسية لجبهة "أولي البأس". فقد ظهر على حسابه في "فيس بوك" وهو يحمل صورة خليفة مكتوب عليها "يا زهرا" ورقم 313.
ويرتبط هذا الرقم مباشرة بـ"كتيبة 313" التي أسسها الحرس الثوري الإيراني في عام 2017، والتي تعمل على تجنيد السوريين من الطائفة الشيعية وتقديم الدعم المالي والعسكري لهم.
وتؤكد هذه الرمزية الطائفية الشكوك حول علاقة "أولي البأس" بإيران، في الوقت الذي تسعى الجبهة إلى التبرؤ من أي دعم إيراني، مما يثير تساؤلات حول مصداقية محاولاتها التنصل من طهران.
وفي حين تسعى الجبهة لتقديم نفسها كقوة مستقلة، فإن الرمزية المرتبطة بالرقم 313 وبالصورة الدينية الطائفية تؤكد ارتباطها الوثيق بالميليشيات المدعومة من طهران، مما يثير تساؤلات حول مصداقية محاولاتها التنصل من إيران.
--------
العربي الجديد