وقد قسمت المقال إلى بساط نظري وتنزيل واقعي. أما البساط النظري فهو إجمال لبعض الأسس النظرية التي جهدتُ في إيصالها لطلابي خلال عقد من الزمان من تدريس مادة “الأخلاق السياسية” ومادة “الأخلاق في العلاقات الدولية”، وهي أسس يحسن التذكير ببعضها في هذا السياق، باعتبار حركة “حماس” حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية. فمن هذه الأسس أن القانون الأخلاقي الإسلامي قانون عام، لا ازدواجية فيه ولا مثنوية، لكنه قانون مرن، إذ هو مزيج من المثالية والواقعية؛ فهو مثالي في مصدره الإلهي، ورفضه لأي انتقائية في التطبيق، وهو واقعي في اعترافه بتعقيد الواقع الحسي، وتزاحم المبادئ فيه أحيانا. ومن هنا تضمّن الشرع الإسلامي منهج الترجيح إذا تزاحمت المبادئ أو تضاربت المصالح، وسن اختيار الأهم فالأهم، وقبِل ارتكاب أخف الضررين، والإغضاء عن خير الشرين، ولم يقف مكتوف الأيدي تشبثا بمثالية حالمة منبتة عن عالم الوقائع الصلبة التي لا ترحم.
كما أن فلسفة الأخلاق الإسلامية فلسفة تركيبية، ذات أبعاد متعددة، وفق ما بينه عدد من فلاسفة الأخلاق المسلمين المعاصرين، ومنهم الشيخ محمد عبد الله دراز (1894-1958)، والدكتور إسماعيل الفاروقي (1921-1986). فهي مبدئية في عمومها واطرادها، من دون أن تقع في الشكلانية التي وقع فيها مُنظّر الأخلاق المبدئية الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1724-1804). وهي مصلحية في غاياتها ومقاصدها من دون أن تقع في الانتهازية والنفعية المحضة التي انتهى إليها الفيلسوف الإنكليزي جيريمي بنتام (1748-1832). وهي توجب الوفاء بالعقود من دون أن تجعل التعاقد في ذاته معيارا للخير والشر كما فعل الفيلسوف الكندي ديفيد غوثيي (1932- ….) صاحب كتاب “الأخلاق بالتوافق”. وهي إنسانية لا تسلب المؤمن حق الاجتهاد تأويلا وتنزيلا، كما فعل بعض المفكرين المسيحيين القائلين بنظرية “الإلزام الإلهي”، من أمثال الأميركي روبرت آدامز (1937- ….).
ومن هذا المنظور الإسلامي الواقعي إلى الأخلاق السياسية يتعين التمييز بين المُنظِّر السياسي والممارِس السياسي. فرسالة المنظر السياسي هي التشبث بالمبدأ، وبناء الحلم، وإقناع الناس بإمكان تحقيقه. وليس يحق له التنازل في المبادئ، ولا هو مضطر لذلك عادة، لأنه يتحرك ضمن قوالب نظرية مجردة. أما وظيفة الممارِس السياسي فهي تحقيق ما يمكن تحقيقه من المبادئ والقيم في واقع الناس، ضمن معادلات الزمان والمكان والإمكان. ولذلك فإن التنظير السياسي أسهل بكثير من الممارسة السياسية، والمعارضة السياسية أسهل بكثير من قيادة الدول.
إن الممارِس السياسي الرشيد هو الذي يفلح في التوفيق بين المبادئ والمصالح، فلا يفرط في أي منهما، وبذلك يكون مبدئيا وبراغماتيا معا، رغم أن الأمر عسير. ولذلك فإنه إنصافا للممارسين السياسيين -ومنهم قادة “حماس”- يحتاج من يحاكم الفعل السياسي محاكمة أخلاقية أن يأخذ في الاعتبار تزاحم القيم الأخلاقية، وصعوبة الجمع بينها في سياق واحد، وتضارب المصالح السياسية، وصعوبة تحقيقها في وقت واحد. وهذا باب واسع من أبواب الفقه السياسي الإسلامي، منحه مرونة وحيوية، وقدرة على مواكبة الحياة، واستيعابا لتعقيداتها وحركتها الدائبة.
وقد تطور الجدل الأخلاقي حول الفعل السياسي تطورا كبيرا في الفكر الغربي المعاصر، فمن المفكرين الغربيين من لا يزال يتشبث بالانتهازية السياسية، ويرى أن الغاية تبرر الوسيلة، تشبثا بتراث نيكولو مكيافيلي (1469-1527). لكن مكيافيلي -الذي يسير هؤلاء على خطاه- أخفق إخفاقا ذريعا في التوفيق بين المبادئ والمصالح، وهو توفيق ضروري لكل سياسة حكيمة. كما أخفق في التمييز بين مصلحة الدولة ومصلحة الحاكم، ولذلك أحب الطغاة كتابه “الأمير” وأدمنوا قراءته في كل عصر، ومن هؤلاء أدولف هتلر (1889-1945)، وفلاديمير لينين (1870-1924)، وبينيتو موسوليني (1883-1945) الذي كتب رسالته للدكتوراه عن مكيافيلي، وكان ملهما له في سياساته الفاشية.
وقد أحيا الفيلسوف الأميركي مايكل وولزر المكيافيلية السياسية القديمة، من خلال نظرية “الأيدي القذرة”، التي يرى من خلالها أن “السياسي يحتاج إلى اقتراف الشر من أجل خدمة الخير”، وأن “من السهل أن تصبح الأيدي قذرة في السياسة، ولا حرج في ذلك في غالب الأحيان”! ولا يمنح مايكل والزر حياة كل البشر القيمة ذاتها من التقديس والاحترام، فهو متحيز لديانته اليهودية وجنسيته الأميركية. ولذلك برر القصف الأميركي للمدن اليابانية بالسلاح النووي في الحرب العالمية الثانية، وذهب إلى أن اليهود كان عليهم اللجوء إلى الإرهاب لحماية أنفسهم من الألمان. أما تحيزه ضد العرب فهو أكبر وأوضح؛ ولذلك فهو يقول عن الغزو الأميركي للعراق “إنها حرب غير عادلة ولكن يجب الانتصار فيها”!.
لكن مفكرين غربيين آخرين تناولوا المعضلة الأخلاقية في السياسة برحابة إنسانية، وحاولوا إيجاد حلول سياسية ضمن معايير الأخلاق. فميز عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920) في محاضرة له بعنوان “مهنة رجل السياسة والتزامه” بين نمطين من الأخلاق السياسية؛ “أخلاق الاقتناع” و”أخلاق المسؤولية”. فأخلاق الاقتناع فردية بطبيعتها، ولا تنظر إلى المآلات كثيرا، وهي قد تناسب السلوك الشخصي، حيث تكون نتائج الفعل مقصورة على فاعله غالبا.
أما أخلاق المسؤولية فهي بطبيعتها أخلاق جماعية وتشاركية، وهي توزَن بمآلاتها وآثارها على الآخرين. فقد يكون من حق الفرد -بل من واجبه أحيانا- أن يضحي بنفسه في سبيل قضية يؤمن بها، لكن ليس من حقه التضحية بالآخرين في سبيل القضية ذاتها، من دون اقتناع منهم، وتراض معهم. ويمتاز الممارس السياسي بأن ثمار أفعاله تتجاوز شخصه، ولها آثار كبيرة على غيره، فهو بحاجة إلى الالتزام بأخلاق المسؤولية، بغض النظر عن اقتناعه الشخصي.
وفي كتاب للمفكر السياسي الأميركي “جوزيف ناي” صادر عام 2020 بعنوان “هل للأخلاق اعتبار؟” (?Do Morals Matter) دعوة حسنة إلى الاستخدام المركب لـ3 مستويات من المحاكمة الأخلاقية للفعل السياسي، وهي:
النيات: حيث يجب النظر في دوافع القرار السياسي وغاياته، هل هي منفعة أنانية، أم مصلحة عامة، أم مزيج من هذه وتلك كما هو الحال غالبا. فإذا كانت النيات سيئة ابتداء انتفتْ صفة الأخلاقية عن الفعل السياسي، بغض النظر عن ثماره.
الوسائل: هل هي شرعية؟ فلا تكفي سلامة المقاصد، ولا نُبْل الغايات المبتغاة، إذا كانت الوسائل غير شرعية. وهنا يرفض جوزيف ناي -ضمنا على الأقل- المكيافيلية الكلاسيكية، وامتداداتها المعاصرة، مثل نظرية “الأيدي القذرة” التي قال بها مايكل وولزر.
المآلات: فهل سيؤدي القرار السياسي إلى النتائج المرجوَّة، أم أنه سعي أعمى، لا يُراعي العواقب، ولا ينظر في المآلات؟ وقد تكون نتائجه عكسية لما يلابسه من سوء التقدير والتدبير، رغم شرعيته المبدئية، ورغم ما قد يصاحبه من مقاصد نبيلة ونيات حسان.
ومما يعين الممارِس السياسي على تحقيق العمل السياسي الأخلاقي تسلحه بما دعاه جوزيف ناي “الذكاء السياقي” (contextual intelligence)، وهو يقصد بهذا المصطلح القدرة على أخذ كل العوامل المؤثرة في القرار بعين الاعتبار، وعدم إغفال أي أثر من الآثار التي قد تنتج عن القرار. وهنا تأتي أهمية الخبرة المتراكمة، والحساسية الاجتماعية، والتشاور الواسع، والبعد عن الارتجال، والاستعانة بأهل الدراية، قبل اتخاذ أي قرار سياسي ذي بال.
وبناء على هذا البساط النظري، نتساءل الآن هل نجحت قيادة “حماس” في الالتزام بالقيم السياسية الإسلامية في تحالفاتها مع إيران وامتداداتها العربية؟ وهل اتسم قادتها بالذكاء السياقي وهم ينسجون تحالفاتهم ويديرونها سياسيا وإعلاميا؟
للجواب عن هذا السؤال يجب أن نأخذ في الاعتبار الظروف التي تتعامل معها حركات التحرر في العالم عامة. فحركات التحرر تعاني غالبا من اختلال موازين القوة لصالح أعدائها المحتلين، وتبحث عن صدوع في المنظومة الدولية لتجد متنفسا لكربها وكرب شعوبها. كما يتعين على حركات التحرر -غالبا- التركيز على قضيتها الخاصة، وعدم حمل الهم العام للأمة، تضييقا لجبهة الأعداء، وحفاظا على شيء من حرية المناورة التي تتيحها التناقضات بين الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة.
وتحتاج جميع حركات التحرر إلى مظلة إستراتيجية خارجية لجهادها التحرري، فلا توجد حركة تحررية منزهة عن الدعم الخارجي، أو مستغنية عن الأحلاف السياسية. فدعوة البعض حركة “حماس” إلى قطع صلاتها بأهم مصدر خارجي لدعمها في ساعة العسرة هو مزيج من المزايدات، وفائض المراء والجدل، والبلاهة السياسية. فليس من الإنصاف أن نطالب “حماس” بالاستغناء عن الدعم الإيراني في ظل الحصار المضروب عليها دوليا وإقليميا، بل الواجب أن نطالب الشعوب والأنظمة العربية بدعمها، بما يغنيها عن الدعم الإيراني وما يترتب عليه من قبائح.
إن ‏أعظم تجربة جهادية معاصرة هي الثورة الجزائرية، وقد كان الاتحاد السوفياتي من أعظم داعميها، رغم احتلاله شعوبا مسلمة يومها. وما كان في وسع المجاهدين الجزائريين رفض الدعم السوفياتي نصرة لتلك الشعوب المسلمة التي تعيش تحت نير الاحتلال الشيوعي الملحد. فلم يكن المجاهدون الجزائريون يومها مسؤولين عن طغيان السوفيات، وليس مجاهدو “حماس” مسؤولين اليوم عن فظائع إيران وامتداداتها الطائفية. لكن بشرط أن تبتعد الحركة عن التشريع الصريح أو الضمني لتلك الفظائع، وأن تجتهد في الحفاظ على نصاعة جهادها من التلطخ بتلك القبائح.
هذا من حيث المبدأ في قضية نسج التحالفات السياسية والعسكرية. أما من حيث إدارة تلك التحالفات، فيبدو لي أن كسب “حماس” في هذا السياق كسب ملتبس. فقد كانت “حماس” -إلى عهد قريب- مدرسة نموذجية في حُسن التسديد، والجمع بين السياسة والجهاد، بتوازن فكري، وتخطيط إستراتيجي، وحكمة سياسية، وهو ما لم تفلح فيه أغلب الحركات الإسلامية الأخرى. لكن الأعوام الأخيرة شهدت تراجعا واضحا في هذا المستوى من النضج. وربما تكون أهم المآخذ الوجيهة في هذا المضمار هي الآتية:
أولا: لم تنجح بعض قيادات “حماس” في التمييز بين ظروف الاضطرار التي تتفهَّمها جماهير الأمة بوجدانها الفطري وفراستها الصائبة، وظروف الاختيار التي تشبه التمادي في الاستهتار بدماء شعوب شقيقة وبمشاعرها. فقد تجاوزتْ قيادات حمساوية حدود العلاقات الاضطرارية بإيران وحزب الله اللبناني -وهما حليفان قويان ومؤثّران ولديهما الكثير مما يستطيعان تقديمه للحركة وجهادها ضد الاحتلال الغاصب- إلى التوسّع في علاقات اختيارية مع أطراف أخرى، لا قيمة لها سياسيا أو عسكريا، مثل نظام بشار الأسد في سوريا، وحركة الحوثيين في اليمن. والهمس الأخير عن نية استعادة العلاقة مع نظام بشار الأسد، والإيحاءات الإعلامية الإيجابية تجاه الحوثيين، يدلان على اختلال في الأولويات الشرعية والسياسية.
ثانيا: يبدو الخطاب السياسي والإعلامي الصادر عن حركة “حماس” في الأعوام الأخيرة غير منضبط أحيانا، وغير مَصوغ بمستوى الإحكام اللازم. فقد كثرت فيه العاطفية المفرطة، والفلتات اللفظية، والمبالغات الخطابية. وهذا أمر يؤسَف له من حركة تدرك التنوع والتناقض الكبير بين المتلقّين لخطابها، من دول وجماعات وشعوب بينها خلافات عميقة؛ تصل إلى الخوض في الدماء. وزاد من سوء هذا الوضع أن بعض من لديهم “أيادٍ بيضاء” على حركة “حماس”، لديهم “أياد سوداء” على شعوب شقيقة من أقرب الناس رحِما بالشعب الفلسطيني، بل إن بعضهم لهم “أياد حمراء” ملطخة بدماء مئات الألوف من أحرار هذه الشعوب وأبرارها.
ثالثا: يبدو أن بعض قادة “حماس” وناشطيها على مواقع التواصل الاجتماعي قد أعجبتهم “خبرتُهم” بالسياسة والحرب، كما أعجبت المسلمين “كثرتُهم” يوم حنين، فظهر في نبرتهم شيء من الوصاية والأستاذية على اختيارات شعوب شقيقة، وعلى ثوراتها المستمرة ضد الاستبداد والطغيان، مما ولَّد إحساسا مريرا لدى قطاعات من هذه الشعوب بأنها تُعامَل بدونية، وبأن قضاياها العادلة أصبحت مجرد “وسائل ثانوية” لصالح “قضية مركزية” مُفترضَة. وهذا الإحساس بالمرارة قد تكون له آثار سيئة للغاية على القضية الفلسطينية. فحين تتكسر النصال على النصال في جسد الأمة بأسْرها، لا تكون لديها قضية مركزية واحدة، بل قضايا مركزية ومحورية عديدة. ويحسُن بأهل كل قضية عادلة في هذه الحالة أن يتعاملوا مع القضايا العادلة الأخرى بإنصاف وتفهم، و”المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على مَن سواهم”، كما في الحديث النبوي الصحيح.
رابعا: يبدو أن بعض قادة “حماس” فقدوا حاسة التوازن الضروري بين ثلاثي الالتزام المبدئي، والتخطيط الإستراتيجي، والتكتيك العملي. وهو توازن حيوي في كل عمل سياسي رشيد. فالذكاء التكتيكي المتجرد من المبدئية الأخلاقية، ومن النظر الإستراتيجي ذي الأفق الواسع، كثيرا ما ينتهي بكوارث على المدى البعيد، رغم ما قد يترتب عليه من مكاسب ظرفية وجزئية. وتستطيع “حماس” أن تستخلص العبرة المريرة هنا من سطوة الحركة الإسلامية في السودان خلال حكمها، وتوسّع حكومة حزب العدالة والتنمية المغربي في براغماتيتها، حتى تورطت في التطبيع المشين، وكلاهما انتهى بكارثة أخلاقية وسياسية. فإذا لم تتعامل قيادة “حماس” مع هذه المزالق بعيون مفتوحة فقد تخسر رأسمالها المعنوي وعمقها الشعبي، وتلك خسارة لا تعوضها أي تكتيكات عملية، مهما تكن بارعة وذكية.
ومن منظور التاريخ السياسي والجغرافيا السياسية، لا توجد منطقة أهم لتحرير القدس والأقصى على المدى البعيد من منطقة هلال شرق المتوسط، التي تشمل مصر، وبلاد الشام (بمعناها التاريخي العريض) والعراق والأناضول. فهذه المنطقة هي العمق الجغرافي لفلسطين، وشعوبها هي العمق الديمغرافي لشعب فلسطين. ولم يختلف هذا العمق في أثناء الاحتلال الصهيوني المعاصر عن العمق الديمغرافي الذي كان في أثناء الاحتلال الصليبي القديم. فقد تشكلت جبهات التحرير ضد الصليبيين في الماضي من 5 جبهات: هي جبهة الاستنزاف في الأناضول، وجبهة الإمداد في الموصل، وجبهة المواجهة في حلب، وجبهة الحسم في دمشق، وجبهة التصفية في القاهرة.
ومن هذه الجبهات تجمعت جيوش صلاح الدين الأيوبي فجاءت من 13 مدينة، منها -بالتعريف الوطني الحديث- 3 مدن تركية (ديار بكر وعينتاب وأورفة)، و4 مدن سورية (حلب وحماة ودمشق وحمص)، ومدينتان عراقيتان (أربيل والموصل)، ومدينتان مصريتان (القاهرة والسويس)، ومدينتان أردنيتان (الكرك وعمان). وتقع كل هذه المدن اليوم ضمن هلال شرق المتوسط. فهذا الهلال بجغرافيته وديمغرافيته هو البيئة الإستراتيجية الحاضنة لفلسطين وأهلها، وهي البيئة الفاعلة فيما يحدث في القدس، المنفعلة به أكثر من غيرها، في الماضي والحاضر والمستقبل. وإذا كان البعض منا لا يدرك ذلك، فإن الصهاينة يدركونه. وتكفي مراجعة كتب المؤرخين الإسرائيليين المتخصصين في تاريخ الحروب الصليبية لفهم ذلك، ومن هؤلاء المؤرخين يوشع براور، وبنيامين كدار، وروني ألانبلوم.
إن القدس هي شغاف القلب من العالم العربي والإسلامي، وهي تقع عند تلاقي القارات والبحار والمضايق في هلال شرق المتوسط. وتحرير القدس مرتبط ارتباطا عضويا بحالة التحرر والبناء في هذه المنطقة (كما كان الحال دائما). فلا تحرير للقدس من دون تحرر الشعوب المحيطة بها في هلال شرق المتوسط، ولا تحرر لهذه الشعوب من دون تحرير القدس، فالعلاقة بين الاثنين علاقة جدلية، هكذا يقول منطق التاريخ والجغرافيا. أما التلاقي بين “حماس” وإيران اليوم فهو تلاق عابر، لا يعبّر عن العمق الجغرافي والإستراتيجي الحقيقي لفلسطين على المدى البعيد، مهما تكن ثماره العاجلة.
وأما شعارات الوحدة والأخوة الإسلامية التي ترفعها إيران، فقد اختبرتها جماهير الأمة الإسلامية وخبرتها على مدى 4 عقود، فأصبحت هذه الشعارات الجوفاء تذكرنا بقول الشاعر التركي الراحل سزائي قره كوج (1933-2021) “لا يكفي أن تقول لي نحن إخوة، بل يجب أن تبين لي هل أنت هابيل أم قابيل”. فمن قِصر النظر الإستراتيجي أن تفرط “حماس” أو أي قوة فلسطينية أخرى في شعوب هلال شرق المتوسط، سعيا وراء مكاسب عابرة، أو منافع عاجلة مع إيران وامتداداتها ومليشياتها الدموية.
وإن تآكل رصيد “حزب الله” اللبناني في قلوب الأمة كلها -باستثناء جيوب طائفية مضمونة- وانهيار صورة “حسن نصر الله” من بطل في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي إلى أمير حرب طائفي محلي، يجب أن يكون درسا للأحبة في “حماس”، ليضبطوا خطابهم، ويحكموا دبلوماسيتهم، ويتجنبوا الشطحات الإعلامية والسياسية، مع احتفاظهم بمنهجهم العملي، وتعاونهم مع الجميع في رسالتهم المقدسة نحو تحرير القدس والأقصى، وهي رسالة الجميع ومسؤوليتهم. ويستلزم هذا الأمر الكثير من الحكمة والبصيرة، والاقتصار على حدود الضرورة، ومراعاة الشعوب الشقيقة التي ذبحتها إيران وامتداداتها على طول خارطة المشرق العربي. أتمنى أن يفهم بعض قادة “حماس” المتحمسين حدود البراغماتية السياسية، وأن لا يضيعوا العمق الإستراتيجي في لقاء عابر مع إيران وامتداداتها على قارعة الطريق في لحظة تاريخية معتمة.
الجزيرة نت