عدت إلى السياسة، بوصفها الممارسة الثقافية القصوى، وبوصفها التجلي الأكيد لانسجام الكينونة ووجودها. وبالأحرى، كانت العودة إلى السياسة بالضبط ضد التفاهة والكذب والابتذال، وضد الشر اليومي.
حتّم هذا الانخراط المحموم، شبه اليومي، في الفعل السياسي ميدانياً وصحافياً، كمواطن مستقل في "انتفاضة الاستقلال" عام 2005، أن أقع في حيرة "أدبية"، مأزق شخصي شديد الوطأة: كتابة الشعر في لحظة سياسية. فتاريخ العلاقة بين الشعر والسياسة عندنا، غالباً ما كشف عن خسارة شعرية أمام المنسوب الدعوي والتبشيري والوعظي والتحريضي. ولطالما تبرأنا وسخرنا من تجربة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي التي فاضت بصخب الشعر السياسي وغنائيته. وربما يصح القول هنا، إننا جئنا إلى الشعر في أواسط الثمانينيات، ومن بين دوافع كثيرة، بدافع نقد السياسة ونقد القصيدة السياسية. كنا ندّعي، من بين ادعاءات كثيرة، أننا في "مهمة" تنظيف القصيدة من لغو الدعاية والخطابة، أننا ننقّي الشعر مما علق فيه من دعاوى ورطانة أيديولوجية ـ سياسية. اخترنا كتابة شعر ضد البطولة، وانحزنا للهامشي والعابر واليومي وما هو فردي وحميم. شعر ضد "الشاعرية"، ضد المهرجانية أيضاً، وبالتأكيد ضد ما كان يسمى "الالتزام".
أحسب، أن خيارنا في الشعر حينها، كان بدوره إعلاناً سياسياً مضمراً ضد السياسة، اعتراضاً فردياً ضد الأمر الواقع، ضد الماضي والحاضر. ولذا، كانت القصيدة خالية من السياسة تقريباً، ومنحازة لاشتغالات جمالية ولغوية وتجريبية. عدنا إلى تقاليد "القصيدة اللبنانية"، الشغف الشكلي، الأناقة والرهافة في اللغة، محاولين إضافة ذاك الشغب والعنف والقسوة، وذاكرة الشارع، ومرارة عيش الحرب، والصخب والفوضى، وأثر الخراب الذي أصاب حياتنا.. وهو خراب طال أيضاً العمارة اللغوية، ونظرتنا إلى العالم وإلى أنفسنا.
في نهاية المطاف، تمردنا وشاكسنا وسخرنا ولعبنا، وحاولنا كتابة قصيدة "تنظّم" كل هذا الدمار الذي يحيق بنا والقابع في أرواحنا أيضاً. وبلا شك، كانت الثمانينيات والتسعينيات هائلة في تحولاتها الأدبية والشعرية، انعطافة ثقافية كبرى، بقدر التغيرات الفكرية التي عصفت بالعالم.

السياسة مجدداً
بهذا المعنى، وإزاء كل هذا المسار، كان عليّ بعد العام 2004، والتحول إلى السياسة مجدداً، أن أجد اقتراحاً شخصياً، لقصيدة لا تخون مزاجي و "منجزي" الشعري (إذا صح التعبير)، ولا تغفل انشغالي بحركة الواقع وتحولاته الصادمة. كان علي كتابة قصيدة سياسية لا تحيل القارئ إلى تلك القصيدة السياسية العربية التي عرفناها طوال عقود منصرمة. ليس هيناً ادعاء كهذا، وليس سهلاً الاهتداء إلى اقتراح كهذا. والأسوأ هو الظن بإنجاز قصيدة توازي مشهد بيروت في ربيع 2005 مثلاً، والأفدح أن نجد كتابة تتنكب زلازل "الربيع العربي".
جاءت الثورات العربية. قد يكون هذا أول حدث سياسي ـ تاريخي، عربي، خالياً من الشعر. ربما أول مشهد عربي بلا شعراء. إن صح ذلك، فهذه ثورة إضافية ضمن الثورات العربية المندلعة منذ مطلع العام 2011.
في هذه اللحظة الخارقة للعادة، المتمثلة بخروج ملايين الشعوب العربية، في أكثر من بلد، ولأكثر من مرة في البلد الواحد، سلماً وعنفاً، هتافاً ورصاصاً، وبكل ما يعنيه هذا "الخروج" من تمرد وغضب وحلم وعواطف ملتهبة وتوق عميق للتغيير، ومع كل ما يرافق هذا "الخروج" من تحولات هائلة في الوجدان والعقل الفرديين والجماعيين، وما يصاحبه من تجارب حسية وروحية، سياسية وأخلاقية.. في لحظة كهذه، غاب الشعر وصمت، كما لو أن الشعر العربي وشعراءه قد أصابهما الخرس.
لا نتحدث عن جبال من القصائد المتكدسة التي قيلت في الثورات الحالية والمكتوبة بانفعال وعلى عجل، المنشورة منها والمرمية.. بل عن عدم وجود تلك القصائد التي "تقول" حقاً، التي تتقدم في الثورات وتوازيها، عبارة ولغة، وتستوعبها وتتشربها و "تنطقها".. نتحدث على الأرجح، عن صمت الشعراء وعجزهم وتأخرهم عن المشهد، وتواريهم (لا كأشخاص، بل كتعبير) عن الحدث، وفقدانهم لـ "المكانة" و "الدور"، اللذين عادة ما كانا للشاعر في صنع التواريخ العربية، تعبيراً وإلهاماً وتكثيفاً للذاكرة، ومرجعاً لها في آن.

الشعر والاستبداد
في الحقب المعاصرة على الأقل، غالبا ما ادعى الشعر العربي شراكته وطليعيته في "النهضة" و "التحديث" و "الثورة" على الماضي وعلى الواقع، واقترح ذاته بوصفه القابض على أسرار "بناء الإنسان الجديد"، والناطق الرسمي باسم القضايا، إن لم يكن هو حاملها ومولّدها وصانعها، وكان دوماً المرجع الوجداني لـ "الحقيقة" وللأفكار وللمثالات. كان هو الوسيط بين الواقع والمأمول، كان هو المعارضة والاحتجاج، وهو المؤرخ وهو الرؤية وهو المشروع والسياسة، هو الحب وهو السلاح. كان "البيان" ومستودع الأسرار، وميتافيزيقيا الكينونة العربية، وها هو غائب وموغل في الغياب.
لا نقول ذلك بحسرة على الإطلاق. فمعنى هذا الغياب يكمن في ماهية الشعر العربي الحديث ودوره، كما يكمن في اللغة، كسلطة وأيديولوجيا. فالحداثة الشعرية ارتبطت بادعاء ووعي إسقاطيين، بامتياز نخبوي مفارق، باستعلاء فادح، وبعقائدية تبشيرية تتراوح بين دعاوى البعث وإعادة الإحياء، الفاشية المنحى، ودعاوى القطيعة التوتاليتارية، الاستئصالية والإقصائية. ومن لم يكن لا من هذا ولا من ذاك، كان واقعا بدوره في وهم إحلال اللغة بدل الحياة والاغتراب عنها. والأهم، أن الشعر إذ كان يطرح نفسه كمعارضة وكاحتجاج وكـ "بيان"، كان يفعل فعل التعويض المزيف: أنا الواقع المشتهى. الثورة تحدث هنا داخل الكلمات وفيها وبها، لا في الميادين والشوارع. كذلك كان يطرح نفسه كسلطة بديلة، أنا العدالة والحلم والرغبات.. لا فيزيائية الحياة المبتذلة.
بهذا المعنى، يشبه الشعر العربي إلى حد مذهل، الاستبداد العربي. فالأنظمة تلك هي عبارة عن جهاز غامض بقوانينه ولغته وعقيدته ومسالكه وفقهه، يحوز السلطة التي يجعلها بعيدة عن متناول العامة ومداركها ونظرها، وهي السلطة نفسها التي كانت تستنبت معارضة على شاكلتها، كصورة مرآوية مقلوبة. وفي الحالين، كان ثمة قطيعة تامة بين قطبي السلطة ـ المعارضة من جهة وبين المجتمع وبواطنه من جهة ثانية. ثم ان جهاز الاستبداد العربي، تألّف أصلا من "حركة" تحديثية، بعثية، انقلابية، تبشر بالتقدم والعقلانية، متسلحة بإيديولوجيات شمولية.
لا يبتعد الشعر العربي الحديث عن هذا التوصيف، وارثاً في الوقت نفسه، السلطة التاريخية للقصيدة العربية وسطوتها، بوصفها لسان العرب وعقلهم، إضافة إلى توسل اللغة كجهاز غامض وكامتياز في إنتاج التعبير، الممتنع عن العامة.
ويبدو محقاً ذاك الشاعر السوري، الذي أدرك ان الثورة في بلاده لا تهدد السلطة القائمة فقط، بل تهدد نصه ودعاويه ونظرياته وفقهه و "مشروع حداثته" واستبد به الرعب مثلما حدث للمعارضة الرسمية (مرآة السلطة المقلوبة) التي رأت في الثورات مجرد هيجان رعاع وعصيان جهلة وظلاميين!
ما رآه الشاعر في ثورة بلاده (وشعبه) صحيح. فهي عن حق جذرية ولن تكتفي بإسقاط نظام سياسي. ففي حدث يشبه السحر، وبلحظة خارقة أطاحت لافتة واحدة يكتبها ويرفعها أبناء قرية نائية في بلاد قاحلة فقيرة، شبه أمية، بكل شعره ولغوه. بل إن سمة ثورات ليبيا وتونس ومصر وسوريا واليمن.. هي نثريتها، ركاكتها اللغوية، هجانة قاموسها ومفرداتها. ثورات بلا فصاحة وبلا بلاغة ولا حسن البيان. قولها من حطام لغوي، من مبتذل الكلمات المتداولة، من عمومية المفردات، من عادية العبارات... ثورات مفعمة بالشعرية، خالية من الشعراء.
لا يتعلق الأمر بتوسل شعوب هذه الثورات للوسائط التكنولوجية الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال وبفنون التعبير المتراوحة بين اللافتة والغرافيتي والصورة الفوتوغرافية وشرائط الفيديو والبث المباشر والمشهديات.. وحسب، بل فوق هذا، يتعلق الأمر بإدراك ضمني عميق بأن الاستبداد العربي في حقيقته هو الترجمة الأصدق للمشروع الشعري الحداثوي، الذي تحول كابوساً قاتلاً.
لذا، اليوم، المهمة المرغوبة هي "تحرير" الشعرية من الاستبداد، من سلطة "الحداثة" نفسها.
--------
السفير