لم تبدأ الدراما لحظة انهمار مهرجان الدموع في المؤتمر الصحافي الذي بات تاريخيا من أول كلمة قيلت فيه من اللاعب الأرجنتيني ليونيل ميسي وهو يعلن عن مغادرته نادي برشلونة.
هناك دراما سياسية مستمرة متعلقة بكرة القدم بوصفها ممثلا وطنيا للدولة وذراعا استثمارية وسياسية للحكومات، أكثر من كونها مجرد لعبة تثير شغف الملايين وتحرق أعصابهم كما تريحها.
دعك من الكلام المعسول والمتبادل بين الرؤساء عندما تُهزم منتخبات بلادهم، بجملة “إنها مجرد لعبة” لأنه أيضا مجرد نفاق دبلوماسي لفك عراك الجماهير الغاضبة من الخصوم. كرة القدم ذراع رياضية للدول مثل الأذرع السياسية والإعلامية تماما. لذلك تستثمر الدول الغنية ورجال الأعمال والسياسيون في فرق كرة القدم المشهورة.
توجد خصومة سياسية في عمق هذه الرياضة، سواء حضرت بشكل فعلي وتسببت في سقوط ضحايا بين جمهور الفريقين، أو بقيت مجرد هتاف عنصري منطلق من مدرجات الملعب وخارجه. لذلك ليس بمقدور أي من رؤساء الدول إبعاد السياسة عن كرة القدم. مع أننا جميعا كعشاق لهذه اللعبة نتمنى إبعاد السياسيين عنها.
عندما وقّع كبار أندية أوروبا على مشروع دوري السوبر الأوروبي في شهر أبريل الماضي، كان التنديد سياسيا باحتراف، أكثر من كونه يمس كرة القدم كلعبة
هل تتذكرون كارثة ملعب هيسل في بروكسل عام 1985، إثر أعمال شغب قبل بداية مباراة نهائي كأس أبطال أوروبا بين نادي ليفربول الإنجليزي ويوفنتوس الإيطالي، حيث لقي 39 شخصاً حتفهم وجرح المئات. تراجعت حينها أصوات المدربين والإداريين وكان يجب أن يعلو صوت السياسيين.
خرجت علينا وقتها رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر ووصفت المتسببين بالكارثة بمجرد حفنة من الغوغاء الفاقدين لصوابهم.
في حقيقة الأمر، إن غالبية دول العالم لا تخفي اعتبارها أن المنتخب الوطني لكرة القدم هو تجسيد للدولة. لدينا أمثلة واضحة لذلك، ففي ثمانينات القرن الماضي وأثناء تصفيات كأس العالم 1986 تحولت إهانة العلم العراقي من قبل لاعب قطري بعد هزيمة منتخب بلاده أمام الفريق العراقي إلى قضية سياسية أدارها أعلى المسؤولين.
وعندما صعد منتخب العراق الأولمبي إلى نصف نهائي أولمبياد أثينا عام 2004، كان الحدث سياسيا بامتياز، فيما البلاد تنهار تحت وطأة الاحتلال والقتال الطائفي، إلى درجة أن الحاكم الأميركي السابق للعراق بول بريمر، طالب السياسيين الذين عينهم التعلم من وحدة وتكاتف لاعبي المنتخب العراقي، مثيرا المزيد من السخرية على المشهد الدامي آنذاك. بيد أن مدرب المنتخب العراقي عدنان حمد طالب جميع السياسيين وقادة الأحزاب الطائفية التوقف عن التبجح لأن المنتخب لا يمثل أي واحد منهم، وإنما يمثل العراق.
كما أثبت لنا السياسيون في مصر والجزائر على حد سواء أنهم أكثر غوغائية من المشجعين المتعصبين والحمقى، عندما انهزم منتخب مصر أمام الجزائر في تصفيات كأس العالم 2010.
وعندما فاز المنتخب الفرنسي بكأس العالم 2018 لم يقبل بعض الفرنسيين العنصريين أبدا أن يكون هذا الرمز الوطني غير أبيض. كان الفريق في غالبيته، ولا يزال، يتكون من لاعبين من أصول أفريقية، الأمر الذي دفع الممثل الكوميدي الأميركي الأسود تريفور نوح المنحدر من جنوب أفريقيا إلى التهكم ساخرا بالقول إن “أفريقيا فازت بكأس العالم”. كانت مزحة سياسية من طراز ثقيل أثارت نقمة الفرنسيين على الممثل الكوميدي بمن فيهم لاعبو المنتخب الفرنسي.
ذلك يعني أن لدينا قصة سياسية في كل ما يحدث بملاعب كرة القدم، لا تخفيها مهما حاولنا جملة “إنها مجرد لعبة”، ومن المناسب العودة إلى تلك القصة السياسية كلما جرت مباراة حاسمة أو استحوذت ذراع استثمارية لدولة ثرية على فريق ناجح أو لاعب ماهر.
مغادرة ميسي لنادي برشلونة إلى باريس سان جرمان ليست مستهل هذه القصة، على الأقل خلال الأشهر القريبة الماضية.
دعونا نعيد قراءة الأحداث القريبة، لنرى أنه لا يمكن إبعاد السياسة عن كرة القدم.
عدنان حمد: نلعب باسم العراق ولا نمثل السياسيين عدنان حمد: نلعب باسم العراق ولا نمثل السياسيين
عندما وقّع كبار أندية أوروبا على مشروع دوري السوبر الأوروبي في شهر أبريل الماضي، كان التنديد سياسيا باحتراف، أكثر من كونه يمس كرة القدم كلعبة. فاعتبر المشروع نوعا من الانفصالية والشقاق في ملاعب الكرة الأوروبية. لذلك سقط ميتا قبل أن يولد وبعد أقل من 48 ساعة. مع أنه كان يقف خلفه 12 ناديا من نخبة كبار أوروبا. تذرعت إدارة تلك النوادي برؤية نخبوية لإصلاح سياسة مستقبل كرة القدم، بينما وصفه السياسيون والخبراء بـ“الانقلاب” في مقابل تعبير “صرخة إنذار” حسب أندريا أنييلي رئيس نادي يوفنتوس الإيطالي، الذي بقي إلى حد اليوم متحمسا للمشروع.
كان الضجيج سياسيا في كل ما يتعلق بمشروع تبنته أثرى وأهم أندية أوروبا لكرة القدم، لكنها انصاعت في النهاية وألغت الفكرة بعد تهديدات بالعقوبات من قبل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم.
وعندما استدعي اللاعب كريم بنزيما إلى المنتخب الفرنسي المشارك في نهائيات كأس أوروبا الشهر الماضي، صنعت فرنسا برمتها قصة سياسية من خلفية هذا اللاعب وهي تترقب فريقها الوطني. فهذا المهاجم الجزائري الفرنسي مجرد لاعب ضال من قبل الجماهير اليمينية المتطرفة.
كرة القدم الفرنسية عندما ترتبط بكريم بنزيما والمنتخب الوطني، تكشف حقيقة الحرب الثقافية التي يديرها اليمين المتطرف في فرنسا على الضواحي التي يغلب عليها الفقر والمهاجرون، حيث تخزن فرنسا طبقاتها الدنيا.
في المقابل وضعت بريطانيا برمتها مدرب المنتخب الإنجليزي غاريث ساوثغيت مثالا سياسيا ودبلوماسيا للاحتذاء به في البطولة نفسها، بعد أن أوصل الفريق الإنجليزي المكون من لاعبين من أعراق وألوان مختلفة، إلى المباراة النهائية. ووصل الأمر بنخب المجتمع السياسية والثقافية إلى تفضيل ساوثغيت على أيقونتهم التاريخية رئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشل.
لكن عندما انهزم الفريق في المباراة النهائية تصاعدت الإساءات العنصرية التي تعرض لها اللاعبون السود، بوكايو ساكا وماركوس راشفورد وجادون سانشو بعد أن أهدروا فرص التسجيل من خلال ضربات الجزاء.
مثّل هذا الحادث سواء ما هو متعلق بالمدرب الإنجليزي أو اللاعبين السود، حربا ثقافية، كان على كبار السياسيين أن يكونوا حاضرين فيها.
وبعد أيام استثنائية فاضت بالميداليات وأعلام الدول شهدتها طوكيو في الأولمبياد، بدأت دراما ميسي الباكي على تركه برشلونة والسعيد بعد ساعات بانتقاله إلى باريس سان جرمان مقابل راتب مكون من رقم مقابله ستة أصفار!
عندما نراقب ما حصل في هذا النادي الفرنسي المملوك للصندوق الاستثماري القطري، نتوصل بسهولة إلى تعريف الذراع الرياضية للدول.
قطر لديها ذراع إعلامية مثل أي من أذرعها السياسية الأخرى، ونادي باريس سان جرمان ذراعها الرياضية منذ عام 2011. يحدث مثل هذا الأمر مع دول أخرى ثرية ورجال أعمال وسياسيين بامتلاكهم أندية أوروبية ناجحة.
ذلك ما يرسم مستقبل كرة القدم بأدوات سياسية مثلها مثل أي شأن سياسي آخر، مع ارتفاع تكاليفها والمخاطر المترتبة على ذلك.
صفقة ليونيل ميسي لا تنتهي بتداعياتها الكروية والمبالغ المالية الضخمة التي ستنفق عليها. ثمة جدل مستمر على المال السياسي الذي أدارها لن يتوقف قريبا. بيد أن صحيفة الغارديان البريطانية ذهبت أبعد من ذلك عندما وصفت الصفقة بـ”العبثية” وتساءلت “كيف يعقل أن أعظم لاعب في جيله لا يتحكم في مسيرته”؟ معربة عن خيبة أمل لأن ميسي كان “آخر شيء نقي وجيد في عالم الانتقالات والاحتيال” هذا الكلام نسخة طبق الأصل مما يقال عن السياسيين بوصفهم محتالين وكذابين كبارا!
بينما طالبت صحيفة “كورييري ديلو سبورت” الإيطالية، الفيفا أن يكون حاضرا ومدافعا عن اللاعبين ويحدد إذا كان بإمكان الدولة امتلاك نادٍ لكرة القدم؟
ماذا يعني ذلك غير أننا جميعا لا يمكننا إبعاد السياسة عن الرياضة. لكن دعونا نعمل من أجل إبعاد السياسيين عن كرة القدم.
-----
العرب