الواقع أن الرئيس أحمد الشرع، الذي جاء في لحظة شبه فراغ سياسي، يبدو في الظاهر خياراً توافقياً بين قوى محلية وإقليمية، لكنه في الجوهر يقف على أرضٍ رخوة. الدولة منهارة، الاقتصاد مدمَّر، المجتمع ممزّق، الهوية الوطنية مختلّة، والخريطة الجغرافية خاضعة لسلطات أمر واقع، بعضها تحت رعاية مباشرة لقوى خارجية. في هذا السياق، من السهل أن يُقدَّم "الاستقرار" أولوية، وأن يُنظر إلى الديمقراطية طرحاً مؤجلاً، أو أداة قابلة للتعليق ريثما تهدأ العاصفة.
ما تحذّر منه نظريات التحول الديمقراطي، وفي مقدمها كتاب "التحوّل من الحكم السلطوي: استنتاجات أولية حول ديمقراطية غير مؤكدة"، لغويليرمو أودونيل وفيليب شميتر، هو بالضبط هذا المنعطف. إذ تفيد التجارب المقارنة في أميركا اللاتينية وجنوب أوروبا وأفريقيا بأن المراحل الانتقالية غالباً ما لا تؤدّي إلى ديمقراطية مكتملة، بل قد تستقر في نماذج هجينة، أو تنكص إلى أشكال من السلطوية المحدثة. ويتحدث أودونيل عن "الديمقراطيات غير الليبرالية" أو "الاستبداد الانتقالي"، أي تلك الأنظمة التي تتبنّى مظاهر من الديمقراطية (الانتخابات، الأحزاب، الدساتير) لكنها تفتقد جوهرها، أي التداول الفعلي للسلطة، والمساءلة، واستقلال القضاء، وحرية التنظيم.
أخطر ما في هذه المراحل أن السلطة الجديدة توظّف حالة الإرهاق الاجتماعي وتشرذم المعارضة لتبني شرعيتها على الخوف، لا على المشاركة. وهذا ما يظهر في الخطاب الرسمي الذي يتبنّاه النظام الانتقالي في سورية اليوم: الأمن قبل السياسة، الخدمات قبل الحرّيات، إعادة بناء الدولة قبل فتح المجال العام. وهو خطابٌ يبدو منسجماً مع مزاج شعبي مرهَق، لكن الخشية أنه بإطلاقه بدون تقييد سياسي وزمني فإنّه يعيد إنتاج منطق الأنظمة التي حكمت عبر بوابة الضرورة، وشرعنت الاستثناء باعتباره القاعدة.
ليس الداخل وحده ما يدفع في هذا الاتجاه، بل كذلك الإقليم والنظام الدولي. الأنظمة العربية تدعم أنظمة "مستقرّة"، ذات طابع سلطوي، ولا تريد أن ترى نظاماً ديمقراطياً حقيقياً قد ينقل العدوى إلى جيرانها. أما الولايات المتحدة، في نسختها الترامبية وما بعدها، فقد أصبحت تتعامل مع ملفات الديمقراطية بخطابٍ مزدوج؛ تروّجه في العلن، لكنها في العمق تفضّل الشريك المضمون، لا النموذج القابل للانفجار.
أوجدت هذه المعادلات نوعاً من التواطؤ غير المعلن على تثبيت النظام الانتقالي السوري بوصفه غاية في ذاته، لا مرحلة عابرة نحو نظام ديمقراطي تعدّدي. لكن هذا التثبيت يأتي على حساب التطلعات التي دفع السوريون من أجلها دماءهم وأرواحهم وبيوتهم، ويطرح السؤال الكبير: هل قامت الثورة فقط لتغيير الرئيس، أم لتغيير نظام الحكم والوصول إلى حلم الحرية والديمقراطية؟
تؤكّد تجارب الانتقال السياسي التي درستها أدبيات التحول أن اللحظة التي تلي سقوط النظام السلطوي مباشرة هي الأكثر حساسية وخطورة، لأنها اللحظة التي تُحدَّد فيها قواعد اللعبة الجديدة، إن وُجدت. وإذا لم تكن هناك إرادة سياسية واضحة لإشراك القوى السياسية والمدنية في رسم ملامح المرحلة المقبلة، فإن السلطة الجديدة ستتجه حتماً نحو تركيز القوة وتهميش المنافسين، لا بفعل النيات بالضرورة، بل بفعل غياب التوازنات والضغوط.
في سورية اليوم، النخبة السياسية مشتتة، والمعارضة مجزّأة، والمجتمع المدني منهك، والسلطة الجديدة تتصرّف بهامش واسع من السيطرة، من دون مراقبة حقيقية أو محاسبة علنية. يضعها هذا أمام امتحان تاريخي: إما أن تُثبت أنها فعلاً نظام انتقالي، ينقل سورية إلى عهد ديمقراطي، أو أن تتحوّل إلى نظام مؤبد، عنوانه "إعادة بناء الدولة" وجوهره إعادة إنتاج الاستبداد بوسائل أقل وحشية، لكن لا تقل قمعاً.
المطلوب من الرئيس الشرع اليوم ليس أن يحل كل معضلات سورية دفعة واحدة، بل أن يُظهر التزاماً جدياً ببناء نظام يفتح المجال أمام التعددية والمشاركة والمساءلة. هذا يتطلب جدولاً زمنيّاً واضحاً لكتابة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرّة، وتحييد المؤسسة الأمنية عن السياسة، وضمان الحريات العامة، وإطلاق حوار وطني حقيقي، لا شكلي. كما أن المطلوب من النخب والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني ألا تنتظر إشارات من الأعلى، بل أن تستعيد دورها في الرقابة والمساءلة والدفاع عن الفضاء العام.
التحوّل الديمقراطي، كما بيّنت دراسات أودونيل وشميتر، لا يحدث نتيجة حسن النيات فقط، بل بفعل موازين قوة جديدة، وضغط مجتمعي منظم، وتحالفات داخلية واضحة تحرس المكتسبات وتمنع الارتداد. ولا تزال هذه العوامل، في الحالة السورية، غائبة أو ضعيفة. لكن ذلك لا يُبرّر القبول بما هو قائم، بل يحفّز على بناء شروط التغيير من داخل الواقع، لا انتظار تغيّره من تلقاء نفسه.
ما يهدّد سورية اليوم ليس فقط عودة الإرهاب أو التدخلات الخارجية، بل أيضاً خطر بناء دولة سلطوية باسم الضرورة، وسلطة مطلقة باسم النظام. وقد أثبتت التجربة أن هذا النوع من "الاستقرار" هشّ، وعاجز عن الصمود، ومولِّد لانفجارات قادمة. وحدها الديمقراطية، بكل تعقيداتها وتكاليفها، قادرة على أن تؤسّس لنظام سياسي يليق بتضحيات السوريين، ويمنحهم ما حُرموا منه طويلاً: كرامة المواطنة، لا صمت الرعايا.
----------
العربي الجديد