لافتٌ في الحالة السورية أن نُّخباً مثقّفةً ومتنوّرةً تقود هذا الانحدار المتسارع صوب الحرب الأهلية، والمشكلة أن كثيرين يسيرون في هذا المسار المهلك وكأنّهم ذاهبون إلى عرس، ويغطّى هذا الانحدار بشعارات حداثية خادعة، تُوظّف وتُلوى عنقها خدمةً لأهداف خاصّة، مثل ضرورة سيطرة الدولة واحتكارها السلاح، أو من حقّ الأقليات أن يكون لها خصوصيتها، وسواها من مبرّراتٍ تستخدمها أطراف المقتلة، ويصيغها في الغالب من يسمّون "نُّخباً مثقّفة".
علينا الاعتراف الآن، وبعكس ما يُقال إن نظام الأسدَين هو من صمّم الحالة السورية لتكون على هذه الشاكلة، أن ذلك النظام، ورغم كلّ أخطائه، استطاع لملمة الشتات السوري ووضعه ضمن قالب اسمه الوطنية السورية، عبر إيجاد حالة من التآلف والتجانس، ولو بحدودها الدنيا، بين جماعات لم يكن لديها لا الرغبة ولا الإرادة لصياغة حالة وطنية، فوق طائفية أو قومية، نتيجة ظروف تاريخية شكّلت وعي الجماعات السورية، فصنعت كلّ جماعةٍ سرديّتها الخاصّة المبنية على الحذر والشكّ وعدم الثقة بالسوري الآخر.
بالقوة، أو من أجل أهداف سياسية، استطاع نظام الأسدَين لصق هذه المكوّنات المتنافرة في نسيج، صحيحٌ أنه مشوّه، لكنّه غير متفسّخ إلى حدّ الذهاب إلى الاحتراب ضرورةً وجوديةً ومدخلاً للتعبير عن الهُّويَّة. على الأقل خفّض التوتر الكامن داخل الجماعات بدرجة كبيرة، كما ساهم توزيع الظلم وتعميم الفقر والقهر بين المكوّنات في إيجاد مساحة، ولو ضئيلة، لتتقاطع عندها تلك المكوّنات تشاركاً في حمولات الألم والهمّ، تفرغ جزءاً كبيراً من شحنات الكراهية تجاه الآخر المختلف. لطالما بالغ نظام الأسدَين في الحديث عن وطنية سورية، في إطار كذبة، الهدف منها تثبيت السلطة وتصويرها حالة إجماع وطني وخيار مواطنين سوريين أحرار، فيما ظلّ مفهوم الوطنية غريباً بين المكوّنات السورية الغارقة في انتماءات ما قبل الوطنية، لم يصدّقها أحد من العامّة السوريين. وتكّشّف أن نخباً كانت تعاقر مفهوم الوطنية بوصفه مكياجاً للتجميل ليس أكثر، لاكتساب صفة الحداثة والتنويرية، الشروط اللازمة كي يحصل المثقّف على هذا اللقب، ومن دونها لن يُبهر أحداً، ولن يحتسب ضمن خانة المثقّفين.
كشفتنا وسائل التواصل الاجتماعي حدّ الفضيحة، عرّتنا من كلّ الأردية التي حاولنا، لا أن نستر بها انتماءاتنا الأولية، فقط، بل أن نقدّم أنفسنا أيضاً بصور بدا أنها كانت زائفةً وغير حقيقية. من يتابع وسائل التواصل يهاله هذا الحجم الكبير من الانحطاط والبؤس الثقافي وحتى المعرفي، يكتشف الفضيحة المؤلمة، أن بعض من سَمّوا أنفسهم قادة رأي ومثقّفين في سورية عُراة، بل كركوزات يبحثون عن الإعجابات التي يهديها لهم جمهور غافل، أو حتى موتور، من دون التفكّر بالمسار الخطير الذي يسلكونه وما قد يترتب عليه من تداعيات فجائعيه.
في سورية اليوم، الشيخ والطائفة والعشيرة هي الوطن، ومن هم خارج هذه الأقانيم أعداء موصوفون يجوز قتلهم، والانتصار عليهم فخر وعزّة، يُضاف إلى السردية الموصوفة التي تؤكّد استمرار الانتصار التاريخي على الآخر، بل تجزم بعراقة المكوّن وجدارته التاريخية. أمّا الآخر فهو من خامة أقلّ جودة، نسلاً وفكراً وأخلاقاً وقيمة. بات علينا الاعتراف بأنّ السوريين وصلوا بالفعل إلى مأزق خطير. الحروب الأهلية أصبحت واقعاً معاشاً، والتعايش أصبح من الماضي، والجدران تُرفع كلّ يوم بين المكوّنات. ما يحصل اليوم ليس مجرّد خلافات على قضايا سياسية معينة، ويا ليته كذلك، هو حالة من صراع شرس أقرب إلى الفجور، يذهب أطرافه إلى الاستقواء بالخارج.
السلطة التي باتت تعتقد أنها أمّنت شبكة حماية خارجية، لم يعد يهمّها بالتالي أيَّ صوت داخلي، والأطراف الأخرى التي تستقوي بالخارج، وتراهن على رغبة بعض الفاعلين الدوليين، ممّن خسروا جرّاء التغيير في سورية، في تقسيم البلد ليهدموا المعبد على الجميع. من الضروري لتجاوز كذبة الوطنية، صياغة مفهوم جديد لها، وإرجاع الخلافات إلى حقل السياسة، ومعالجتها بآليات مختلفة، ليس مطلوباً من الجميع أن يهيموا بحبّ الجميع، وليحتفظ كلٌّ بسرديته لنفسه، المطلوب ليس لشيء، بل لتجنّب المذبحة، أن يتوافق الجميع على صيغة قانونية ودستورية، مثل كلّ شعوب العالم، تحفظ وحدة البلد وتؤمّن استقراره، أمّا مفهوم الوطنية فيتوجّب بالفعل إلغاؤه من القاموس السياسي السوري، وفهم أننا مضطرون للتعايش مع بعضنا بعضاً، وتحت سقف قانون يسري على الجميع
-----------
العربي الجديد