ومع مرور هذه الأشهر الثمانية، بات واضحاً أن واشنطن بدأت تراجع نهجها السابق، متخلّية عن ازدواجية الخطاب التي لطالما خيّمت على سياستها تجاه سورية. لم تعد تلوح بشعارات "محاربة الإرهاب" لتبرير دعمها أطرافاً انفصالية أو كيانات أمر واقع، كما حدث بعد 2011، حين وفّرت غطاءً سياسياً وعسكرياً لصعود فاعلين مرتبطين بحزب العمّال الكردستاني، تحت مسمّى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، في تجاهل واضح لتعقيدات الواقع السوري وحساسيته الوطنية. اليوم، يلوح في الأفق خطاب أميركي أكثر توازناً، يعكس (ولو جزئياً) إدراكاً متأخراً لطبيعة المرحلة، ولضرورة إعادة ضبط العلاقة مع سورية بما يتجاوز مقاربات العزل والتدخّل الانتقائي.
تظهر تصريحات كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية بوضوح تبدّلاً حقيقياً في مقاربة واشنطن للملفّ السوري
للمرّة الأولى، تُظهِر واشنطن استعداداً حقيقياً للإصغاء، لا لفرض الإملاءات، فخطابها بشأن الانتقال السياسي لم يعد مجرّد تكرار لصيغة دبلوماسية مشروطة، بل بات يرتبط بإشارات عملية لدعم مؤسّسات الدولة السورية والاعتراف بالسلطة السياسية الجديدة. وما يلفت الانتباه أن هذا النمط من التعاطي لم يكن حاضراً حتى في فترات الانفراج النسبي بين البلدَين، سواء في بدايات حكم الأسد، أو أثناء تنسيقهم في إطار التحالف الدولي لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). من الإنصاف، عند الحديث عن الموقف الأميركي الراهن، أن نستحضر مفارقة السنوات التي تلت عام 2011، حين رفعت واشنطن شعارات كبرى عن دعم تطلّعات الشعب السوري، وخطوط أوباما الحمراء، لكنّها اكتفت بمعركة صوتية في الإعلام، من دون أن تقرن أقوالها بأفعال حقيقية على الأرض. فقد بدت الولايات المتحدة آنذاك وكأنّها تكتفي بلعب دور المراقب المتحمّس، تُدلي بتصريحات تؤيّد الانتقال الديمقراطي، وتنتقد وحشية النظام، لكنّها لم تقدّم أي دعم نوعي حقيقي للفصائل السياسية أو العسكرية التي مثّلت نواة المشروع السوري الوطني.
تظهر تصريحات كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية بوضوح تبدّلاً حقيقياً في مقاربة واشنطن للملفّ السوري. من تأكيد وزير الخارجية، روبيو، على دعم جهود الاستقرار في سورية الموحّدة ذات السيادة، إلى مؤشّرات صريحة على مراجعة نظام العقوبات بما يراعي الاعتبارات الإنسانية، مروراً بتلميحات إلى استخدام أدوات أكثر مرونة لدعم المرحلة الانتقالية، ذلك كلّه يعكس تخلّي الإدارة الأميركية تدريجياً عن سياسة الشروط المسبقة والضغط الأحادي، لصالح خطاب أكثر اتزاناً، يعترف بأولوية الحفاظ على وحدة سورية، ويرفض علناً أي مشاريع للتقسيم. والتحوّل الأميركي في التعاطي مع الملفّ السوري ناتج من تداخل عوامل متعدّدة، يجتمع فيها البعد الإقليمي بالحسابات الداخلية. فقد شكّل بقاء النظام السابق، رغم كلفته الإنسانية والسياسية، ذريعة جاهزة للتهرّب الأميركي من حسم موقف واضح. أمّا بعد سقوطه، فقد تبدّدت تلك الذريعة، ليطرح السؤال الأهم: من سيتولى ملء الفراغ؟ في هذا السياق، لا تُخفي واشنطن اهتمامها المباشر بالموارد الحيوية في سورية، وفي رأسها النفط، فضلاً عن رغبتها الواضحة في أن تكون شريكاً فاعلاً في أي مسار سياسي أو اقتصادي مستقبلي، تجنّباً لترك الساحة بالكامل لمنافسين دوليين، مثل روسيا والصين أو إيران.
ولافت أن هذا التحوّل في المزاج السياسي الأميركي يجد جذوره في نهج إدارة الرئيس دونالد ترامب، التي أرست مبدأ التكلفة مقابل الجدوى في السياسات الخارجية، وتبنّت منطق الصفقات بدلاً من الانخراط الأيديولوجي. فقد قدّم ترامب، بوضوح غير معتاد، قناعة بأن الحروب الطويلة لا تخدم المصالح الأميركية، لكنّه في الوقت نفسه لم يرَ في الانسحاب الكامل خياراً واقعياً. هذه المقاربة مهّدت لاعتماد صيغة جديدة: حضور عسكري محدود في الأرض، يقابله نفوذ سياسي مرن ومتحرّك، وهو ما بات سمة ثابتة في السياسة الأميركية تجاه سورية الجديدة. ولا يمكن قراءة التحوّل في الموقف الأميركي تجاه سورية بعيداً عن السياق الإقليمي المتبدّل. فتركيا، التي كانت لسنوات داعماً رئيساً للمعارضة السورية، باتت اليوم تمارس سياسة التوازن بين موسكو وواشنطن، وفق مصالحها الاستراتيجية المُستجِدّة.
لا تُخفي واشنطن اهتمامها بالموارد في سورية، ولا رغبتها في أن تكون شريكاً في أي مسار
وفي المقابل، تبرز مساعٍ خليجية حثيثة لإعادة الانفتاح على دمشق من بوابة الاستقرار الإقليمي، فيما يبدو انسجاماً مع المزاج الأميركي الجديد الذي يفضّل التهدئة والتفاهم على التصعيد والمواجهة. وما يميّز الموقف الأميركي في هذه المرحلة أنه بات خالياً من الأوهام والشعارات المكرّرة. لم تعد واشنطن تتحدث عن نشر الديمقراطية، بل تحدد أهدافها بوضوح: منع الفوضى، منع عودة داعش، حماية الأقليات، منع عودة النفوذ الإيراني.
يبقى القول، لم تعد سورية هامشاً في حسابات واشنطن، ولم تعد أميركا قادرة على تجاهل شكل الحكم الجديد فيها. اللحظة استثنائية، والمخاض لم ينتهِ بعد. وبين الواقعية والتردّد، يتحدّد مستقبل العلاقة بين الطرفَين، فإما ولادة شراكة تحفظ الاستقرار، أو عودة إلى فوضى لم تعد تُغري أحداً.