ومع اتساع رقعة الصحراء الجزائرية، يختلف السيّاح في اختيار وجهتهم، بعضهم يختار تمنراست بأقصى الجنوب، حيث توجد أعلى قمة جبلية في الجزائر والمناخ المعتدل نسبيا والذي لا يشبه مناخ الصحراء رغم وجوده في وسطها تقريبا. وبعضهم يختار الجنوب الغربي قرب أدرار، حيث السياحة الدينية وأماكن الزوايا الصوفية. والبعض الآخر يكتشف سحر الطبيعة في تاغيت قرب بشار، وآخرون يفضّلون آثار التاسيلي في مناطق جانت وما جاورها، وهناك من يتوجهون إلى غرداية موطن بني ميزاب المذهب الإباضي الذين يوجد أيضا في تونس وليبيا وسلطنة عمان، والبقية تأخذ وجهات أخرى متعددة.
يحرص عبد الرزاق محمودي من الجزائر العاصمة، وهو موظف متقاعد حديثا على اكتشاف الصحراء الجزائرية، فبعد أن اكتشف أدرار في سنوات سابقة، يستعد هذه المرة لقضاء ليلة رأس السنة في منطقة تمنراست. يقول عبد الرزاق: "منذ صغري كنت أحلم بالسفر، وكان السفر بالنسبة لي يعني التوجه نحو شمال المتوسط، ففي سنوات شبابي الأولى مع بدايات ثمانينيات القرن العشرين اكتشفت كثيرا من المناطق في أوروبا، لم يكن نظام التأشيرة (الفيزا) حينها مفروضا علينا، وكانت كل التسهيلات تقدم لنا، فكان بإمكانك أن تأخذ جواز سفرك وتوجه صوب مطار هواري بومدين(مطار الجزائر الدولي) وهناك تشتري العملة الأجنبية بسعر زهيد جدا وتحجز فورا لتتوجه إلى أوروبا. اكتشفت حينها اسبانيا والبرتغال وفرنسا وإيطاليا". يضحك ثم يواصل: "كنا نتنقل جماعات في موسم جني العنب في إيطاليا، نعمل هناك في الحقول ونحصل على أموال معتبرة نصرفها في رحلاتنا ونعود محملين بهدايا ثمينة إلى البلد".
ويؤكد عبد الرزاق، أنه لم يكتشف السياحة في الصحراء الجزائرية إلا في السنين الأخيرة، عندما ذهب مع صديقه إلى مدينة أدرار (أكثر من ألف كيلومتر جنوب الجزائر العاصمة). ويستطرد بالقول " لم أكد أعتقد أن المنطقة ستسحرني وتغيّر وجهة نظري تماما إلا عندما اكتشفتها واكتشفت أماكنها الروحية المتعددة، مثل زاوية سيدي محمد بن لكبير الصوفية، وزاوية كونتا التي وجدت فيها خلوني الروحية، وهناك استعدت هويتي وروحي واكتشفت نفسي من جديد. لقد اكتشفت الهدوء وسكينة الروح وتمكنّت من تجاوز أزمة منتصف العمر، وأنا الآن مستعد للذهاب في الطائرة إلى مدينة تمنراست (2000 كيلومتر تقريبا جنوب العاصمة الجزائر) لاكتشاف هذه المنطقة لأول مرة في حياتي".
" شارل دو فوكو" و" الرجال الزرق"
وتأتي منطقة تمنراست في مقدمة مناطق الجنوب الجزائري التي تحظى بأكبر عدد من السيّاح وفي مقدمتهم الأجانب الذين يحرصون على زيارتها طيلة فترات السنة وخصوصا مع قرب احتفالات رأس السنة الميلادية، ولعل الوجهة الرئيسية لكثير من السكان هي "مقام شارل دو فوكو" وهو راهب كاثوليكي فرنسي (1858-1916)، اكتشف منطقة الثوارق مع بدايات القرن العشرين وقرر العيش هناك، وأخذ يتردد على أعلى قمة جبلية في المنطقة والجزائر ككل وهي قمة "اسكرام" وعاش وسط شعب الثوارق وشاركهم أفراحهم وأتراحهم. وحتى يذوب في مجتمعهم، اعتكف لمدة عشر سنوات يدرس لغتهم وهي جزء من اللغة الامازيغية، وتعلم ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وشرع في تأليف كتاب وهو عبارة عن قاموس لقواعد ومفردات لغة الثوارق، نُشر بعد وفاته في أربعة مجلدات وصار مرجعا مهما في تاريخ تطور الثقافة الأمازيغية.
وبعد مرور أكثر من مئة سنة على رحيله، ما يزال شارل دو فوكو، يثير الجدل من قائل بأنه عابد زاهد عاشق بلاد الثوارق وعبادها، سخّر لهم جهده وحياته وقرر البقاء بينهم طيلة حياته مكتفيا بعيشة بسيطة وحياة قاسية جدا، وقائل إنه كان مبشّرا وخادما لمشروع استعماري كبير بحكم خلفية عسكرية. وفي كل الحالات ما تزال قمة "أسكرام" و"مقام" شارل دو فوكو، تستقطبان السيّاح الأجانب والجزائريين على مدار السنة، وخصوصا مع احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية.
ويتفاجأ الزائر لمنطقة تمنراست باعتدال الجو الذي يبقى كذلك طيلة أيام السنة وفي عز الصيف، حيث تلتهب مناطق أخرى حيث درجة الحرارة إلى درجة الخمسين مئوية، فالمنطقة جبلية تشكلت من براكين خامدة، وفيها أعلى قمم الجبال في الجزائر مثل قمة تاهات أتكور، وهي موطن شعب الثوارق المعروفين بـ"الرجال الزرق" وهم من الشعوب الأمازيغية التي تمتد إلى ليبيا ومالي والنيجر وحتى شمال بوركينافاسو، وهم معروفون بموسيقاهم المميزة.
يقول رحيم علمي، وهو عازف على الجيتار في إحدى الفرق الموسيقية الهاوية، إنه اكتشف تمنراست انطلاقا من موسيقى "التيندي" التي اكتشفها في أحد مهرجانات الجزائر العاصمة، ويضيف: "لقد سحرتني تلك الموسيقى وأخذت بعقلي وجعلتني أبحث فيها انطلاقا من الانترنيت وأصبحت أعزفها لأصدقائي، وبعدها قررت السفر إلى هناك لمعرفة موطنها الأصلي، ولم اجد أفضل من عطلة رأس السنة حيث تكثر الرحلات الجوية وبأسعار تحفيزية. ذهبت أولا رفقة أحد أصدقائي إلى مهرجان الأهقار بوسائلي الخاصة وبدون دعوة وتمتعت حقا بموسيقى الثوارق الرائعة واكتشفت المجتمع الثوارقي عن قرب، وهناك اكتشفت الراحة التي كنت أبحث عنها طيلة حياتي".
وأضاف " غير أن ما يؤسفني هو غياب الثقافة السياحية في هذه المنطقة والنقص الكبير في الخدمات الفندقية، وتمنراست لو كانت في بلد آخر لتحولت إلى قطب سياحي عالمي، فهي بوابة القارة الأفريقية والذي يتوجه إلى مالي او النيجر أو إلى جنوب الصحراء لا بد أن يمر من هناك".
الصحراء عشق أبدي
ومع ازدياد الاهتمام بالسياحة في الصحراء، تعمل السلطات الجزائرية على تشجيع الأمر والاستثمار فيه، من خلال التخفيضات المهمة في تذاكر السفر بالطائرة والتي تصل في بعض الأحيان إلى الخمسين في المئة، إضافة إلى إنجاز الطريق البري السيّار شمال جنوب، وهو جزء من مشروع طريق " الوحدة الأفريقية" الذي التزمت الجزائر قبل غيرها بإنجاز الجزء الذي يمر عبر ترابهما وهو الأطول ويتجاوز الـ2300 كيلومتر. إضافة إلى إقامة مهرجانات فنية وثقافية كبيرة على غرار " المهرجان الدولي لفنون الأهقار" بمدينة تمنراست الذي يستقطب مشاركين من دول إفريقية عديدة، ومهرجان "الأهليل" بمدينة تميمون (ولاية أدرار)، وهو نوع موسيقي محلي صنّفته منظمة اليونيسكو ضمن التراث العالمي، والمهرجانان يقامان مع نهاية السنة الميلادية في كل مرة، ليكونا مناسبة ثقافية وسياحية في الوقت نفسه.
ورغم ذلك، يشتكي كثير من السيّاح من غياب الوسائل الضرورية للراحة منها نقص الهياكل الفندقية والبنى التحتية عموما، مثلما يؤكد يوسف مكي، وهو مفتش سابق للغة العربية، يقول أنه اكتشف الصحراء صدفة فوقع في عشقها الأبدي، ويأسف لغياب الثقافة السياحية عموما، ويقول في هذا الصدد: "رغم الحديث عن التسهيلات إلا أن تذكرة السفر من مدن الشمال إلى الجنوب تبقى غالية جدا، إضافة إلى تأخر الطائرة في كل مرة لأسباب غير منطقية؛ وهو التأخر الذي قد يتجاوز اليوم الكامل دون تقديم أي اعتذار وقد حدث هذا أكثر من مرة، لكن هذا لا يقلل من روعة الصحراء الجزائرية التي أرغب في اكتشافها الواحدة تلو الأخرى".
ويتابع: "لقد اكتشفت مدينة تميمون صدفة في زمن موجة العنف الدموية في جزائر التسعينيات، واكتشفت معها موسيقى الأهليل ومنطقة أدرار ككل وصحراء تنزروفت وهي منطقة قاحلة تنعدم فيها الحياة ويقال إن البكتريا لا تعيش فيها إلى درجة أن الذي يموت هناك لا تتحلل جثته وقد قيل أن بعض العساكر من أيام الاحتلال الفرنسي اُكتشفت جثثهم هناك قبل سنين فقط دون أن تتحلل. كما اكتشفت منطقة رقان القريبة من هناك والتي عرفت التفجيرات النووية للاحتلال الفرنسي هناك والتي تشبه تفجيرات هيروشيما ونجازاكي الشهيرة وما تزال مأساة ضحاياها متواصلة إلى حد الآن دون تعويض من السلطات الفرنسية".
ويأمل يوسف، في اكتشاف كل مناطق الصحراء الجزائرية في كل مرة تتاح له الفرصة، وهو يقول إن الصحراء تحتفظ بأسرارها، ولكل منطقة منها خصوصيتها التي تفرّقها عن المناطق الأخرى.
ورغم الحديث الرسمي عن تشجيع السياحة الصحراوية في الجزائر، يعمل قليل من الجزائريين على اكتشاف صحرائهم، ويبقى الأغلبية منهم مكدسين في مدن الشمال قبل أو عند الشريط الساحلي، وكثير منهم يحلم باجتياز الصفة الشمالية للمتوسط ولو عبر قارب من "قوارب الموت".
عيون المقالات
إسقاط هيمنة الدليل: في اعتداء الواقع على المعرفة
15/04/2024
- دارا عبدالله
رسائل النيران بين إيران وإسرائيل
15/04/2024
- محمد مختار الشَنقيطي
ماذا سيفعل نتنياهو يوم لا يأتي "غودو" الأميركي؟
15/04/2024
- سمير التقي
هل لبنان مقبل على حرب اهلية.؟
13/04/2024
- علي حمادة
هل صحيح أن حرب أوكرانيا غيّرت التوازنات الدولية؟
11/04/2024
- زياد ماجد
سوريا ساحة قتل ينبغي أن يتوقف
10/04/2024
- فايز سارة
هل تلعب إيران دوراً داعشياً في المنطقة؟
10/04/2024
- د. فيصل القاسم
لماذا دُعي الأسد الى قمة البحرين؟
09/04/2024
- جمال حمّور
اضطراب المثقفين الفلسطينيين إزاء نكبة غزة
08/04/2024
- ماجد كيالي
جنوب لبنان.. بعد غزة
06/04/2024
- عبد الوهاب بدرخان
غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح
06/04/2024
- عدنان عبد الرزاق
نزار قباني وتلاميذ غزة
06/04/2024
- صبحي حديدي
حرب لإخراج إيران من سوريا
06/04/2024
- محمد قواص
الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران
06/04/2024
- زكي الدروبي
على هامش رواية ياسر عبد ربه
04/04/2024
- حازم صاغية
الأحزاب الوطنية المقدّمة لإخراج سورية من النفق
04/04/2024
- عبد الباسط سيدا
اميركا وإسرائيل تناوران لكسب الوقت وتوسيع الحرب
02/04/2024
- (جواد الهنداوي)
المظاهرات ضد الجولاني.. تيارات متباعدة الأهداف وحراك شبابي في حقل ألغام
31/03/2024
- فائز الدغيم
في الذكرى 12 لـ"جمعة العزة" في حمص.. تفاصيل جديدة عن تمزيق صورة حافظ الأسد
30/03/2024
- عائشة صبري
( هل تجمع الرياض الأسد ومعارضيه على طاولة واحدة؟ )
30/03/2024
- مالك الروقي
|
مع احتفالات رأس السنة... جزائريون يكتشفون صحراءهمالجزائر - عندما يفتخر الجزائريون ببلدهم يلجأون إلى وصفه بـ"البلد القارة"، فهو الأكبر مساحة في القارة الإفريقية وفي العالم العربي والعاشر على المستوى العالمي وتتجاوز مساحته المليوني كيلومتر مربع بكثير. وكل هذه المساحة لا تضم إلا حوالي 42 مليون نسمة من السكان، يقطن أغلبهم عند أو قرب الشريط الساحلي المحاذي للبحر الأبيض المتوسط. وتبقى أغلبية البلاد شبه خالية من السكان، وتتشكل أساسا من الصحراء الكبرى وهو الأكبر على المستوى العالمي، وبقيت تلك الصحراء مجهولة مدة طويلة. ومع اقتراب احتفالات أعياد الميلاد وبداية السنة الميلادية الجديدة، يستعد كثير من السيّاح الجزائريين والأجانب في الذهاب إلى عمق الصحراء في محاولة لاكتشافها كما لم يفعلوا من قبل.د ب ا
الاربعاء 26 ديسمبر 2018
إقرأ المزيد :
|
|
|