المدفن هو المدفن ذاته، يهزأ بكلِّ جيل جديد يُكفِّر من كان قبله
مدافن معرَّة النُّعمان
مع حلول فصل الصِّيف ونهاية العام الدِّراسيِّ الأوَّل بعد سقوط نظام المخلوع بشَّار الأسد نشطت عودة المهجِّرين والنَّازحين إلى بيوتهم المدمَّرة، وخلال عملهم بإزالة رُكام هذه البيوت لإعادة إعمارها عثروا تحت الأنقاض على لوحة فسيفسائيَّة في بلدة مريمين بين حمص وحماة، وسبقها اكتشاف لوحة فسيفسائيَّة أخرى في مدينة الرَّستن سنة 2022. وفي الخامس والعشرين من أيَّار-مايو 2025عثر الأهالي على مدفنين (بيزنطيَّين/رومانيَّين) تحت الأنقاض في المنطقتين الشِّماليَّة والجنوبيَّة من مدينة معرَّة النُّعمان، ويبدو واضحًا للمتابعين أنَّنا نتحدَّث عن مربَّع حضاريَّ يمتدُّ ضلعه الشَّرقيُّ من حمص حتَّى حلب مرورًا بحماة وإدلب، ويمتدُّ ضلعه الثَّاني من طرطوس حتَّى اللَّاذقيَّة غربًا، ويقع داخل هذا المربَّع كلٌّ من السَّاحل السُّوريِّ مع سلسلة جبال سوريا الغربيَّة وجبل الزَّاوية وضفاف نهر العاصي في سهل الغاب بالإضافة إلى مركز مملكة إيبلا أو عاصمتها في تلِّ مرديخ على تقاطع طريقي M4 مع M5؛ أي تقاطع طريق دمشق حلب الدُّوليِّ مع طريق حلب اللَّاذقيَّة.
ترجع المواقع الأثريَّة المكتشفة حديثًا إلى حقبة زمنيَّة واحدة؛ أي إلى الحقبة البيزنطيَّة أو مهد المسيحيَّة الأوَّل في القرن الميلاديِّ الثَّالث تقريبًا، بدءًا من لوحة مدينة الرَّستن الفسيفسائيَّة المكتشفة سنة 2022 مرورًا بلوحة مريمين الفسيفسائيَّة المكتشفة سنة 2025 بالإضافة إلى مدافن معرَّة النُّعمان المكتشفة 2025 وقبلها موقع كنيسة كرَّاتين الكبير بالقرب من مدينة سنجار على أطراف بادية الشَّام شرقيِّ معرَّة النُّعمان. وتحتوي اللُّوحات الفسيفسائيَّة على رموز ورسوم ومشاهد وكتابات مهمَّة جدًّا في ميدان علم الآثار المقارن وعلم الدَّلالة المقارن، وتشبه كتاباتها كتابات موقع كرَّاتين الكبير، الَّذي يرجع إلى الحقبة الزَّمنيَّة ذاتها، برغم اختلاف مواد التَّشكيل والبناء من موقع إلى آخر؛ حيث كانت أعمدة كرَّاتين وتيجانها من الصَّخر البازلتيِّ الأسود، وكانت مدافن معرَّة النُّعمان من الصَّخر الكلسيِّ الأبيض بسبب طبيعة الموادِّ الطَّبيعيَّة الخام المتوفِّرة في كلِّ موقع؛ لكنَّها تعكس ثقافة دينيَّة مرحليَّة واحدة؛ لها امتدادها الضَّارب في التَّاريخ إلى ما قبل الدِّيانات المسيحيَّة واليهوديَّة وديانة التَّوحيد الإبراهيميَّة؛ حيث عُثر على نقوش لصلبان متعدِّدة الأشكال ونجوم خماسيَّة وسداسيَّة ترجع إلى الحضارات الوثنيَّة الأولى في بلاد الرَّافدين ووادي النَّيل وما بينهما؛ وهذا يدلُّ على تطوُّر دلالات هذه الرُّموز الحضاريَّة والدِّينيَّة بين مرحلة وأخرى.
تطوُّر فنَّ العمارة ودلالاته من مملكة إيبلا حتَّى العصور المسيحيَّة الأولى في معرَّة النُّعمان
يتألَّف كلُّ مدفن من المدافن البيزنطيَّة المكتشفة حديثًا في معرَّة النُّعمان من ستَّة معازب أو ستَّة قبور محفورة في الصَّخر الكلسيِّ الأبيض على شكل صناديق ولها أغطيتها الصَّخريَّة أيضًا، وقد شكَّلت هذه القبور ضريحًا كاملًا أو مجموعة أضرحة على شكل زاوية قائمة؛ يضمُّ كلُّ ضلع أو كلُّ قطعة مستقيمة من قطعتي هذه الزَّاوية ثلاثة قبور، يعلو كلَّ واحد منها قنطرة أو قوس نصف دائريِّ من الحجر الكلسيِّ الأبيض، وينهض كلُّ طرف من أطراف القوس أو القنطرة نصف الدَّائريَّة على عمود متوَّج، وقد أُنجزت الزَّخرفات الهندسيَّة على معظم هذه التِّيجان، وظهر تاج غير مكتمل فوق عمود من هذه الأعمدة؛ ممَّا يعطي صورة واضحة جدًّا عن تطوَّر المدافن وبناء الأضرحة الدِّينيَّة وأدواتها، ويطرح أسئلة مهمَّة ترتبط بأسباب توقَّف النَّحت والعمارة في هذا المدفن قبل إنجازه بصورته الختاميَّة، حيث يبدو أنَّ المعمار أو النَّحات المعرِّيَّ قد رسم دائرته، وقسَّم أوتارها وأقواسها على رأس التَّاج، ووضع خطوطه الهندسيَّة الأولى قبل الشُّروع بنحت زخارف التَّاج فوق العمود، ثمَّ ترك الضَّريح، أو هجره قبل أن ينجز عمله؛ ولهذا العمل بصورته الرَّاهنة كثير من الاحتمالات والدَّلالات كموت النَّحَّات، وهو الاحتمال الأضعف، وربَّما يدلُّ على أفول نجم الدَّولة أو أفول نجم هذه الأسرة أو السُّلالة من أصحاب الأضرحة؛ أي سقوط الأسرة الحاكمة أو سقوط دولتهم مقابل ظهور أسرة حاكمة جديدة في معرَّة النُّعمان؛ ولهذا أيضًا ارتباطه باسم معرَّة النُّعمان ذاتها، وبحروب الغساسنة في بلاد الشَّام ضدَّ المناذرة في الحيرة أو بلاد الرَّافدين.
تقع المدافن البيزنطيَّة المكتشفة حديثًا في معرَّة النُّعمان تحت الأرض على سفوح جبل الزَّاوية وقراه التَّي تحتوي على أكثر من 300 موقع أثريِّ شهير، يكشف عن أهمِّيَّة المنطقة الكبرى بسبب تعاقب الحضارات الكثيرة عليها، وهذا لا يعني أبدًا أنَّ شعوب هذه المنطقة كان يستبدلون بشعوب أخرى مع كلِّ حضارة جديدة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فالرَّاجح عندي أنَّ شعوب هذه المنطقة كانوا لا دينيِّين قبل ظهور الدِّيانات الوثنيَّة الأولى في مصر والعراق وظهور عبادة أدد أو حَدد ودَجن أو داغان وعشتار أو عشتروت وغيرهم في إيبلا، والرَّاجح عندي أيضًا أنَّ قسمًا من سكَّان هذه المنطقة صاروا وثنيِّين من أتباع عبادة أدد وداغان وعشتار وقسمًا آخر بقي على لا دينيَّته، مثل انقسام المجتمع مع ظهور كلِّ تيَّار ثقافيٍّ أو دينيٍّ جديد، ثمَّ ظهرت ديانة التَّوحيد الإبراهيميَّة في إيبلا، ومع كلِّ ظهور جديد ينقسم المجتمع بين من يقبل التَّحوُّل ومن يرفضه. وتشير الأسماء والأدلَّة اللُّغويَّة الفيلولوجيَّة في وثائق إيبلا أنَّ سكَّان إيبلا الأصليِّين هم من العرب الأموريِّين، وهم أجداد إبراهيم عليه السَّلام بالقرب من مكان إقامة أبيه (آزر أو تارخ) في أورفة بالقرب من مدينة الرَّقَّة، ومن هذه الأسماء (أبّت ليم) وإسماعيل وعيسى وميكائيل، وترجع كلُّها إلى ما قبل 2300 قبل الميلاد؛ وهذا يعني أنَّ سكَّان هذه المنطقة هم آباء إبراهيم-عليه السَّلام-وأجداده، وآباء وأجداد الأوغاريتيِّين والفينيقيِّين والكنعانيِّين والآراميِّين في رأس شمرا وجُبيل ودمشق أيضًا، وإبراهيم-عليه السَّلام-هو حفيد الإيبلاويِّين من جانب وهو أبو الأنبياء من جانب آخر.
ويقع المدفنان المكتشفان في معرَّة النُّعمان بين المدافن الإسلاميَّة الرَّاهنة؛ ممَّا يؤكِّد أنَّ المدافن هي المدافن ذاتها من مرحلة ما قبل الأديان إلى مرحلة الوثنيَّة ثمَّ إلى مرحلة التَّوحيد أو الحنفيَّة الإبراهيميَّة وما بعدها من ظهور اليهوديَّة ثمَّ المسيحيَّة ثمَّ الإسلام؛ وهذا ما يعطي الاكتشاف أهمِّيَّته في مجال التَّحليل الثَّقافيِّ وعلم الأديان المقارن وعلم الآثار المقارن، وتنضوي هذه العلوم كلُّها تحت علم الدَّلالة المقارن، ويضيء هذا الاكتشاف على تطوُّر الفنون والعقائد، وكلُّ هذا يعيدنا إلى ثقافة أبي العلاء المعرِّيِّ وفكره الَّذي سبق عصره حين قال:
صاحِ هذي قبورنا تملأ الرَّحبَ فأين القبور من عهد عادِ
ربَّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
نعم! المدفن هو المدفن ذاته، يهزأ بكلِّ جيل جديد يُكفِّر من كان قبله، وفي الضَّريح أو المدفن أو المكان ذاته، دُفن اللَّا دينيُّون، ثمَّ دفن الوثنيُّون، ثمَّ دُفن أصحاب التَّوحيد الإبراهيميِّ واليهوديِّ والمسيحيِّ، دُفن المسلمون، ودُفن الذُّكور والإناث، دُفن المؤمنون والملحدون، نُعي الشَّيخ في لحظة، وبشَّر البشير بولادة طفل جديد في اللَّحظة ذاتها، ولم يدرك مثل هذه اللَّحظة وتناقضاتها غير فكر المعرِّيِّ الوقَّاد حين قال:
غيرُ مُجدٍ في ملِّتي واعتقادي نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادِ
وشبيهٌ صوتُ النَّعيِّ إذا قيـ ـس بصوت البشير في كلِّ نادِ
أَبَكت تلكم الحمامة أم غنَّـ ـت على فرع غصنها الميَّادِ
بالتَّأكيد تعرَّض المدفنان لشيء من التَّخريب بسبب القصف والتَّدمير والكشف العشوائيِّ عنهما خلال أعمال رفع الأنقاض وإعادة الإعماء، وربَّما نُهب شيء أو أشياء من مقتنيات تلك المدافن؛ فبعض الشُّعوب وبعض الشَّخصيَّات المهمَّة كانت تصطحب معها بعض أملاكها؛ كالذَّهب والفضَّة إلى العالم الآخر، وبعضهم كان يوصي بدفن بعض مقتنياته الخاصَّة معه أو بجواره، وقيمة هذه الأشياء العلميَّة أو البحثيَّة-لو عثر عليها-تتجاوز قيمتها المادِّيَّة بأضعاف كثيرة؛ لذلك يفوِّت تُجَّار الآثار على الباحثين كثيرًا من أدلَّة البحث العلميِّ وأدواته المفيدة، لكن قد يعزِّي البحث العلميَّ شيء مهمٌّ آخر غير النُّقوش الحجريَّة الصَّامدة ضدَّ عمليَّات النَّهب، تلك النُّقوش الَّتي تدلُّ على تطوُّر فنون النَّحت والعمارة وبعض المعتقدات، والرُّفات أو بقايا العظام في القبور هي الشِّيء المهمُّ الآخر، وتحتوي هذه الرُّفات على الحمض النَّوويِّ (DNA) لأصحابها، ويمكن دراسة هذا الحمض النَّوويَّ ومقارنته بالأحماض النَّوويَّة لبعض المعاصرين من سكَّان هذه المنطقة، ويمكن مقارنته برفات بعض القبور من مراحل زمنيَّة سابقة أو لاحقة في الرَّستن ومريمين ودمشق وكرَّاتين وتَلْدَبس وإيبلا وتل مرديخ وغيرها، وأرجِّح أنَّ هذه الرُّفات ستكون من سلاسة (J) وتفريعاتها (J1) و(J2) وغيرها، لكنَّ التَّوقُّع شيء ونتائج الدِّراسة العلميَّة شيء آخر؛ لذلك نهيب بمديريَّة المتاحف وأقسام التَّاريخ والآثار ومراكز البحث العلميِّ في الجامعات السُّوريَّة أن تعتني بهذه المواقع، وتوليها الاهتمام اللَّازم لتحويلها إلى مواقع سياحيَّة أوَّلًا، ولدراستها وتقديم نُسخ من نتائج هذه الدَّراسة إلى هذه المدافن بعد تحويلها إلى مراكز ثقافيَّة في مدينة معرَّة النُّعمان أو بعد ربطها بالمركز الثَّقافيِّ وبالمتحف في هذه المدينة، ولا بدَّ إعطاء موقع إيبلا الأثريِّ بعض الأهمِّيَّة الَّتي يستحقُّها من خلال إدارجه في مواقع التُّراث العالميِّ الخاضة لدعم منظَّمة اليونسكو ورعايتها، ومن خلال إحياء مكتبة إيبلا بنشر الدِّراسات عن هذه المملكة، ووضع الكتب فيها، وقد كانت هذه المكتبة أضخم وأهمَّ مكتبة في العالم قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، ويعرف كلُّ حرٍّ متنوِّر في هذه العالم أنَّ بناء المكتبة والعناية بها في وقتنا الرَّاهن لا يدلُّ إلَّا على حالة حضاريَّة متقدِّمة؛ فما بالك بمكتبة ضمَّت حوالي 20 ألف وثيقة قبل آلاف السِّنين؟َ!
مع حلول فصل الصِّيف ونهاية العام الدِّراسيِّ الأوَّل بعد سقوط نظام المخلوع بشَّار الأسد نشطت عودة المهجِّرين والنَّازحين إلى بيوتهم المدمَّرة، وخلال عملهم بإزالة رُكام هذه البيوت لإعادة إعمارها عثروا تحت الأنقاض على لوحة فسيفسائيَّة في بلدة مريمين بين حمص وحماة، وسبقها اكتشاف لوحة فسيفسائيَّة أخرى في مدينة الرَّستن سنة 2022. وفي الخامس والعشرين من أيَّار-مايو 2025عثر الأهالي على مدفنين (بيزنطيَّين/رومانيَّين) تحت الأنقاض في المنطقتين الشِّماليَّة والجنوبيَّة من مدينة معرَّة النُّعمان، ويبدو واضحًا للمتابعين أنَّنا نتحدَّث عن مربَّع حضاريَّ يمتدُّ ضلعه الشَّرقيُّ من حمص حتَّى حلب مرورًا بحماة وإدلب، ويمتدُّ ضلعه الثَّاني من طرطوس حتَّى اللَّاذقيَّة غربًا، ويقع داخل هذا المربَّع كلٌّ من السَّاحل السُّوريِّ مع سلسلة جبال سوريا الغربيَّة وجبل الزَّاوية وضفاف نهر العاصي في سهل الغاب بالإضافة إلى مركز مملكة إيبلا أو عاصمتها في تلِّ مرديخ على تقاطع طريقي M4 مع M5؛ أي تقاطع طريق دمشق حلب الدُّوليِّ مع طريق حلب اللَّاذقيَّة.
ترجع المواقع الأثريَّة المكتشفة حديثًا إلى حقبة زمنيَّة واحدة؛ أي إلى الحقبة البيزنطيَّة أو مهد المسيحيَّة الأوَّل في القرن الميلاديِّ الثَّالث تقريبًا، بدءًا من لوحة مدينة الرَّستن الفسيفسائيَّة المكتشفة سنة 2022 مرورًا بلوحة مريمين الفسيفسائيَّة المكتشفة سنة 2025 بالإضافة إلى مدافن معرَّة النُّعمان المكتشفة 2025 وقبلها موقع كنيسة كرَّاتين الكبير بالقرب من مدينة سنجار على أطراف بادية الشَّام شرقيِّ معرَّة النُّعمان. وتحتوي اللُّوحات الفسيفسائيَّة على رموز ورسوم ومشاهد وكتابات مهمَّة جدًّا في ميدان علم الآثار المقارن وعلم الدَّلالة المقارن، وتشبه كتاباتها كتابات موقع كرَّاتين الكبير، الَّذي يرجع إلى الحقبة الزَّمنيَّة ذاتها، برغم اختلاف مواد التَّشكيل والبناء من موقع إلى آخر؛ حيث كانت أعمدة كرَّاتين وتيجانها من الصَّخر البازلتيِّ الأسود، وكانت مدافن معرَّة النُّعمان من الصَّخر الكلسيِّ الأبيض بسبب طبيعة الموادِّ الطَّبيعيَّة الخام المتوفِّرة في كلِّ موقع؛ لكنَّها تعكس ثقافة دينيَّة مرحليَّة واحدة؛ لها امتدادها الضَّارب في التَّاريخ إلى ما قبل الدِّيانات المسيحيَّة واليهوديَّة وديانة التَّوحيد الإبراهيميَّة؛ حيث عُثر على نقوش لصلبان متعدِّدة الأشكال ونجوم خماسيَّة وسداسيَّة ترجع إلى الحضارات الوثنيَّة الأولى في بلاد الرَّافدين ووادي النَّيل وما بينهما؛ وهذا يدلُّ على تطوُّر دلالات هذه الرُّموز الحضاريَّة والدِّينيَّة بين مرحلة وأخرى.
تطوُّر فنَّ العمارة ودلالاته من مملكة إيبلا حتَّى العصور المسيحيَّة الأولى في معرَّة النُّعمان
يتألَّف كلُّ مدفن من المدافن البيزنطيَّة المكتشفة حديثًا في معرَّة النُّعمان من ستَّة معازب أو ستَّة قبور محفورة في الصَّخر الكلسيِّ الأبيض على شكل صناديق ولها أغطيتها الصَّخريَّة أيضًا، وقد شكَّلت هذه القبور ضريحًا كاملًا أو مجموعة أضرحة على شكل زاوية قائمة؛ يضمُّ كلُّ ضلع أو كلُّ قطعة مستقيمة من قطعتي هذه الزَّاوية ثلاثة قبور، يعلو كلَّ واحد منها قنطرة أو قوس نصف دائريِّ من الحجر الكلسيِّ الأبيض، وينهض كلُّ طرف من أطراف القوس أو القنطرة نصف الدَّائريَّة على عمود متوَّج، وقد أُنجزت الزَّخرفات الهندسيَّة على معظم هذه التِّيجان، وظهر تاج غير مكتمل فوق عمود من هذه الأعمدة؛ ممَّا يعطي صورة واضحة جدًّا عن تطوَّر المدافن وبناء الأضرحة الدِّينيَّة وأدواتها، ويطرح أسئلة مهمَّة ترتبط بأسباب توقَّف النَّحت والعمارة في هذا المدفن قبل إنجازه بصورته الختاميَّة، حيث يبدو أنَّ المعمار أو النَّحات المعرِّيَّ قد رسم دائرته، وقسَّم أوتارها وأقواسها على رأس التَّاج، ووضع خطوطه الهندسيَّة الأولى قبل الشُّروع بنحت زخارف التَّاج فوق العمود، ثمَّ ترك الضَّريح، أو هجره قبل أن ينجز عمله؛ ولهذا العمل بصورته الرَّاهنة كثير من الاحتمالات والدَّلالات كموت النَّحَّات، وهو الاحتمال الأضعف، وربَّما يدلُّ على أفول نجم الدَّولة أو أفول نجم هذه الأسرة أو السُّلالة من أصحاب الأضرحة؛ أي سقوط الأسرة الحاكمة أو سقوط دولتهم مقابل ظهور أسرة حاكمة جديدة في معرَّة النُّعمان؛ ولهذا أيضًا ارتباطه باسم معرَّة النُّعمان ذاتها، وبحروب الغساسنة في بلاد الشَّام ضدَّ المناذرة في الحيرة أو بلاد الرَّافدين.
تقع المدافن البيزنطيَّة المكتشفة حديثًا في معرَّة النُّعمان تحت الأرض على سفوح جبل الزَّاوية وقراه التَّي تحتوي على أكثر من 300 موقع أثريِّ شهير، يكشف عن أهمِّيَّة المنطقة الكبرى بسبب تعاقب الحضارات الكثيرة عليها، وهذا لا يعني أبدًا أنَّ شعوب هذه المنطقة كان يستبدلون بشعوب أخرى مع كلِّ حضارة جديدة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فالرَّاجح عندي أنَّ شعوب هذه المنطقة كانوا لا دينيِّين قبل ظهور الدِّيانات الوثنيَّة الأولى في مصر والعراق وظهور عبادة أدد أو حَدد ودَجن أو داغان وعشتار أو عشتروت وغيرهم في إيبلا، والرَّاجح عندي أيضًا أنَّ قسمًا من سكَّان هذه المنطقة صاروا وثنيِّين من أتباع عبادة أدد وداغان وعشتار وقسمًا آخر بقي على لا دينيَّته، مثل انقسام المجتمع مع ظهور كلِّ تيَّار ثقافيٍّ أو دينيٍّ جديد، ثمَّ ظهرت ديانة التَّوحيد الإبراهيميَّة في إيبلا، ومع كلِّ ظهور جديد ينقسم المجتمع بين من يقبل التَّحوُّل ومن يرفضه. وتشير الأسماء والأدلَّة اللُّغويَّة الفيلولوجيَّة في وثائق إيبلا أنَّ سكَّان إيبلا الأصليِّين هم من العرب الأموريِّين، وهم أجداد إبراهيم عليه السَّلام بالقرب من مكان إقامة أبيه (آزر أو تارخ) في أورفة بالقرب من مدينة الرَّقَّة، ومن هذه الأسماء (أبّت ليم) وإسماعيل وعيسى وميكائيل، وترجع كلُّها إلى ما قبل 2300 قبل الميلاد؛ وهذا يعني أنَّ سكَّان هذه المنطقة هم آباء إبراهيم-عليه السَّلام-وأجداده، وآباء وأجداد الأوغاريتيِّين والفينيقيِّين والكنعانيِّين والآراميِّين في رأس شمرا وجُبيل ودمشق أيضًا، وإبراهيم-عليه السَّلام-هو حفيد الإيبلاويِّين من جانب وهو أبو الأنبياء من جانب آخر.
ويقع المدفنان المكتشفان في معرَّة النُّعمان بين المدافن الإسلاميَّة الرَّاهنة؛ ممَّا يؤكِّد أنَّ المدافن هي المدافن ذاتها من مرحلة ما قبل الأديان إلى مرحلة الوثنيَّة ثمَّ إلى مرحلة التَّوحيد أو الحنفيَّة الإبراهيميَّة وما بعدها من ظهور اليهوديَّة ثمَّ المسيحيَّة ثمَّ الإسلام؛ وهذا ما يعطي الاكتشاف أهمِّيَّته في مجال التَّحليل الثَّقافيِّ وعلم الأديان المقارن وعلم الآثار المقارن، وتنضوي هذه العلوم كلُّها تحت علم الدَّلالة المقارن، ويضيء هذا الاكتشاف على تطوُّر الفنون والعقائد، وكلُّ هذا يعيدنا إلى ثقافة أبي العلاء المعرِّيِّ وفكره الَّذي سبق عصره حين قال:
صاحِ هذي قبورنا تملأ الرَّحبَ فأين القبور من عهد عادِ
ربَّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
نعم! المدفن هو المدفن ذاته، يهزأ بكلِّ جيل جديد يُكفِّر من كان قبله، وفي الضَّريح أو المدفن أو المكان ذاته، دُفن اللَّا دينيُّون، ثمَّ دفن الوثنيُّون، ثمَّ دُفن أصحاب التَّوحيد الإبراهيميِّ واليهوديِّ والمسيحيِّ، دُفن المسلمون، ودُفن الذُّكور والإناث، دُفن المؤمنون والملحدون، نُعي الشَّيخ في لحظة، وبشَّر البشير بولادة طفل جديد في اللَّحظة ذاتها، ولم يدرك مثل هذه اللَّحظة وتناقضاتها غير فكر المعرِّيِّ الوقَّاد حين قال:
غيرُ مُجدٍ في ملِّتي واعتقادي نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادِ
وشبيهٌ صوتُ النَّعيِّ إذا قيـ ـس بصوت البشير في كلِّ نادِ
أَبَكت تلكم الحمامة أم غنَّـ ـت على فرع غصنها الميَّادِ
بالتَّأكيد تعرَّض المدفنان لشيء من التَّخريب بسبب القصف والتَّدمير والكشف العشوائيِّ عنهما خلال أعمال رفع الأنقاض وإعادة الإعماء، وربَّما نُهب شيء أو أشياء من مقتنيات تلك المدافن؛ فبعض الشُّعوب وبعض الشَّخصيَّات المهمَّة كانت تصطحب معها بعض أملاكها؛ كالذَّهب والفضَّة إلى العالم الآخر، وبعضهم كان يوصي بدفن بعض مقتنياته الخاصَّة معه أو بجواره، وقيمة هذه الأشياء العلميَّة أو البحثيَّة-لو عثر عليها-تتجاوز قيمتها المادِّيَّة بأضعاف كثيرة؛ لذلك يفوِّت تُجَّار الآثار على الباحثين كثيرًا من أدلَّة البحث العلميِّ وأدواته المفيدة، لكن قد يعزِّي البحث العلميَّ شيء مهمٌّ آخر غير النُّقوش الحجريَّة الصَّامدة ضدَّ عمليَّات النَّهب، تلك النُّقوش الَّتي تدلُّ على تطوُّر فنون النَّحت والعمارة وبعض المعتقدات، والرُّفات أو بقايا العظام في القبور هي الشِّيء المهمُّ الآخر، وتحتوي هذه الرُّفات على الحمض النَّوويِّ (DNA) لأصحابها، ويمكن دراسة هذا الحمض النَّوويَّ ومقارنته بالأحماض النَّوويَّة لبعض المعاصرين من سكَّان هذه المنطقة، ويمكن مقارنته برفات بعض القبور من مراحل زمنيَّة سابقة أو لاحقة في الرَّستن ومريمين ودمشق وكرَّاتين وتَلْدَبس وإيبلا وتل مرديخ وغيرها، وأرجِّح أنَّ هذه الرُّفات ستكون من سلاسة (J) وتفريعاتها (J1) و(J2) وغيرها، لكنَّ التَّوقُّع شيء ونتائج الدِّراسة العلميَّة شيء آخر؛ لذلك نهيب بمديريَّة المتاحف وأقسام التَّاريخ والآثار ومراكز البحث العلميِّ في الجامعات السُّوريَّة أن تعتني بهذه المواقع، وتوليها الاهتمام اللَّازم لتحويلها إلى مواقع سياحيَّة أوَّلًا، ولدراستها وتقديم نُسخ من نتائج هذه الدَّراسة إلى هذه المدافن بعد تحويلها إلى مراكز ثقافيَّة في مدينة معرَّة النُّعمان أو بعد ربطها بالمركز الثَّقافيِّ وبالمتحف في هذه المدينة، ولا بدَّ إعطاء موقع إيبلا الأثريِّ بعض الأهمِّيَّة الَّتي يستحقُّها من خلال إدارجه في مواقع التُّراث العالميِّ الخاضة لدعم منظَّمة اليونسكو ورعايتها، ومن خلال إحياء مكتبة إيبلا بنشر الدِّراسات عن هذه المملكة، ووضع الكتب فيها، وقد كانت هذه المكتبة أضخم وأهمَّ مكتبة في العالم قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، ويعرف كلُّ حرٍّ متنوِّر في هذه العالم أنَّ بناء المكتبة والعناية بها في وقتنا الرَّاهن لا يدلُّ إلَّا على حالة حضاريَّة متقدِّمة؛ فما بالك بمكتبة ضمَّت حوالي 20 ألف وثيقة قبل آلاف السِّنين؟َ!