تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

أعيدوا لنا العلم

18/09/2025 - أحمد أبازيد

عودة روسية قوية إلى سوريا

17/09/2025 - بكر صدقي

لعبة إسرائيل في سوريا

10/09/2025 - غازي العريضي

من التهميش إلى الفاشية

10/09/2025 - انس حمدون

الوطنية السورية وبدائلها

04/09/2025 - ياسين الحاج صالح


أموال التسويات وممتلكات "البعث": بين الغنيمة والعدالة






في أعقاب إسقاط النظام الأسدي، كان من المفترض أن تتولى الحكومة الانتقالية مهمة إعادة صياغة العلاقة بين مؤسسات الدولة والمجال السياسي، على أسس من الشفافية، والكفاءة، واحترام القانون. غير أن هذا المسار سرعان ما اصطدم بسؤال جوهري ما زال بلا إجابة واضحة: ما مصير الممتلكات المصادرة من حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية، التي قرر مؤتمر النصر في 29 كانون الأول 2024 حلّها وإعادة جميع ممتلكاتها وأموالها إلى الدولة السورية؟


  وما مصير الأموال الناتجة عن التسويات مع رجال أعمال ومسؤولين متورطين في دعم النظام السابق؟

حتى الآن، لا تتوافر معلومات دقيقة حول حجم هذه الموارد أو وجهتها، ولا ما إذا كانت قد أُدرجت فعلياً ضمن ملكية الدولة، سوى ما أعلنه وزير الخارجية أسعد الشيباني في آذار الماضي، بشأن تأسيس "الأمانة العامة للشؤون السياسية" ضمن وزارة الخارجية، ومنحها صلاحية "توظيف أصول حزب البعث وأحزاب الجبهة والمنظمات التابعة لها بما يخدم المهام السياسية والوطنية". هذا القرار الوزاري، الذي صدر بشكل منفرد، ما زال ينقصه تفويض تشريعي، ويبدو متعارضاً مع مقررات "مؤتمر النصر" التي شددت على إعادة الأصول إلى الدولة، لا إلى وزارة بعينها.

أما التسويات المالية التي أُبرمت مع رموز النظام السابق وداعميه المحليين من رجال أعمال وغيرهم، فقد اتسمت هي الأخرى بالغموض الأمني والسياسي. ورغم أنها من المفترض أن تكون جزءاً من مسار العدالة الانتقالية، إلا أنها تحولت فعلياً إلى صفقات مغلقة، ما أثار تساؤلات حول مدى التزام السلطة الجديدة بمبادئ الشفافية والمساءلة.

المسألة هنا لا تتعلق بتفصيل إداري، بل بجوهر الشرعية. فالأموال المصادرة ليست "مجهولة المالك"، ولا يجوز التعامل معها كغنيمة سياسية تُوزّع بقرارات حكومية. بل هي مِلك عام يجب أن يُدار بمنطق الدولة، عبر سلطة تشريعية وهيئات قضائية مستقلة تخضع للمساءلة. وأي انحراف في هذا الملف يعني إضاعة فرصة لترسيخ معيار أساسي: أن لا أحد فوق القانون. بل قد يفتح الباب لاتهامات بالمحاصصة، ويعمّق الشكوك الشعبية في جدية الانتقال.

ولا تقتصر خطورة هذا الملف على الداخل السوري. فمعظم أموال رموز النظام المهرّبة ما زال مجمّداً بقرارات دولية، بانتظار مسار قضائي شفاف يسمح بإعادتها للشعب السوري. وأي تلاعب داخلي أو استخدام اعتباطي للأموال المصادرة في الداخل سيضعف موقف سوريا أمام المحاكم الدولية، ويمنح حجة للدول الحاجزة لرفض إعادة تلك الأموال.

ولنا في تجارب دول أخرى مثالاً: ففي مصر مثلاً، أدى غياب الشفافية في ملف استرداد الأموال المنهوبة إلى فشل استرجاع مليارات الدولارات المجمّدة في سويسرا وبريطانيا. وفي ليبيا، أسهمت الانقسامات بين السلطات المتنافسة في تضييع فرصة استعادة أموال القذافي. وعلى العكس من ذلك، نجحت تونس جزئياً في بناء مسار مؤسسي عبر "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد"، ما عزز موقفها أمام الشركاء الدوليين ومكّنها من  استعادة جزء من ثروتها المنهوبة.

يتابع السوريون هذا الجدل بعيون مترقبة. ففي بلد أنهكته الحرب والانقسامات، لا شيء يرمز إلى العدالة أكثر من رؤية ثروات المستبدين تعود إلى الشعب. وإدارة هذا الملف بمنطق الدولة – لا الغنيمة – سيكون بمثابة إعلان عملي عن نية بناء عقد اجتماعي جديد، يقوم على المشاركة والمساءلة. فما البديل؟

لتجاوز هذه الإشكاليات، يمكن الاستفادة من تجارب العدالة الانتقالية في دول أخرى كتونس مثلاً، عبر خطوات عملية واضحة تشمل ممتلكات الأحزاب المنحلة وأموال رموز النظام السابق معاً:

  1. إنشاء هيئة وطنية مستقلة لإدارة الممتلكات والأموال المصادرة، تضم قضاة وخبراء اقتصاديين وممثلين عن المجتمع المدني، وتخضع لرقابة البرلمان والقضاء.

  2. تخصيص صندوق سيادي عام تُحوَّل إليه هذه الأموال لدعم التعليم والصحة وإعادة الإعمار وتعويض الضحايا، بدلًا من ذهابها إلى مجموعات بعينها.

  3. إنشاء صندوق لدعم التعددية السياسية يُودع فيه جزء من عائدات هذه الأصول والأموال ويُخصص لتمويل الأحزاب الجديدة بعدالة وشفافية، بما يمنع تحويلها إلى أداة في يد السلطة.

  4. تجميد التصرف في الممتلكات الكبرى إلى أن تستقر الدولة وتعيد بناء مؤسساتها الدستورية، منعًا لأي قرارات متسرعة أو ذات طابع انتقائي.

  5. إشراف إعلامي ومدني واسع يضمن الشفافية ويعزز ثقة المواطنين، ويقطع الطريق أمام تكرار الفساد.

بهذه الخطوات، يمكن تحويل الأموال المصادرة من عبء سياسي إلى رافعة اقتصادية ورمز لبداية جديدة. فالعدالة الانتقالية ليست تصفية حسابات ولا انتقاماً، بل هي تأسيس لمعايير حكم جديدة. وأموال حزب البعث ورموز النظام السابق ومؤيديه، تمثل اختباراً حياً لهذه المعايير. فإذا جرى التعامل معها بمنطق الغنيمة، فإن النظام الجديد سيواجه خطر إعادة إنتاج الاستبداد. أما إذا أُديرت بمنطق الدولة، فستكون مدخلاً لترسيخ الشرعية وبناء الثقة.

إن الخيار الأفضل المطروح أمام السوريين هو إدارة هذه الأموال كرصيد وطني يساهم في بناء الدولة القائمة على القانون والمساواة، من أجل التأسيس فعلياً لسوريا جديدة. وإذا أرادت السلطة أن تؤسس لدولة وطنية مختلفة عن الدولة البعثية-الأسدية، فعليها أن تبدأ من احترام سيادة القانون، وفصل المؤسسات، وتفكيك منطق "السلطة الكلية" الذي حكم سوريا وشعبها لعقود.
-------
المدن

 


ميشال شماس
الخميس 18 سبتمبر 2025