وفي إدلب، شجرة الزيتون جزء من الهوية والذاكرة الجمعية للمجتمع بأسره؛ تحمل أغصانها رموز السلام والخير والثبات والعراقة والانتماء منذ أقدم العصور، وتظل ظلالها مظلة للتلاقي الاجتماعي والتكافل الأسري. في السطور التالية نغوص في عالم الزيت والزيتون في الريف الإدلبي: في أهميته التاريخية والاجتماعية، وطقوس قطافه التقليدية، وروابطه الاجتماعية والاقتصادية، وصولاً إلى تأثير تحولات العصر والثورة السورية وسقوط النظام على هذه مكانة هذه الشجرة.
*- المنزلة التاريخية والاجتماعية لشجرة الزيتون في إدلب*
يتربع يتربّع الزيتون على عرش الحياة الريفية في إدلب منذ قرون، وليس غريبًا أن يُطلق عليها اسم "إدلب الخضراء" لكثرة أشجارها التي تجاوزت قبل الثورة 14 مليون شجرة، توارثها الأهالي أبًا عن جد كإرث عائلي مقدس. . وكما يقول أبو عمر، وهو فلاح من جبل الزاوية: "أرض الزيتون لا يُفرّط بها؛ من يتخلى عن أرضه كمن يتخلى عن زوجته … شجر الزيتون حنون على صاحبه"، وهذا دليل العلاقة الوجدانية القوية بين الفلاح وأشجاره.
ومنذ أقدم الحضارات، لعب زيتون إدلب دوراً اقتصادياً وثقافياً بارزاً. وفي مملكة إيبلا القديمة (تل مرديخ قرب مدينة إدلب) قبل 4500 عاماً، تُظهر الرقم الطينية واللقى الأثرية أن الزيتون وزيته كانا عصب الاقتصاد المحلي، وكان يتم الاتجار بهما مع مصر وبلاد ما بين النهرين والأناضول. وقد طوّر أهل إيبلا تقنيات متقدمة لعصر الزيتون وتخزينه. ومن شمال سوريا انتقلت زراعة الزيتون نحو الساحل الأوروبي المتوسطي؛ حتى أن الرومان نقلوا شتول الزيتون من هذه الأرض إلى إسبانيا وإيطاليا واليونان. واستمرت شجرة الزيتون محتفظةً بمكانتها المرموقة بين الأشجار المثمرة في بلاد الشام وحوض المتوسط.
وإلى جانب دورها الاقتصادي، حملت شجرة الزيتون قيمة روحية ورمزية وللزيتون قيمة روحية ورمزية، فهو "الذهب الأخضر" المقرون بالبركة والخصب، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم: {والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين} (سورة التين:1). ويتناقل الأهالي قولاً شعبياً مأثوراً: "الزيت عمّار البيت"، تعبيراً عن أن وجود زيت الزيتون في البيت يعني الخير والازدهار لأهلها. ولم يكن غريباً أن يتغنّى الشعراء بالزيتون؛ فلطالما اعتُبرت أغصانه رمزًا للسلام يتهادون به. وكذلك تسللت هذه الأهمية إلى اللغة اليومية والأمثال، مثل قول أم محمد - وهي فلاحة إدلبية – : "زيته طيّب ولقطه بيشيب"؛ في وصف متندر على جودة زيت الزيتون رغم صعوبة قطافه التي تُشيّب الرؤوس. واجتماعياً، شكّل موسم الزيتون عماد الدورة السنوية للحياة القروية. فمع قدومه تتحول القرية إلى خلية نحل: تعطَّل كثير من الأعمال الأخرى، وتتكاتف الجهود لجني المحصول المنتظر.
*- طقوس قطاف الزيتون التقليدية.. أناشيد الأرض وثياب الجدات*
مع أوائل تشرين الأول (أكتوبر) من كل سنة، ما أن يهلُّ موسم القطاف حتى تبدأ التحضيرات التي ورثها الأبناء عن الآباء، وفي ليلة ما قبل القطاف تشهد حركة دؤوبة في كل بيت ريفي؛ وما إن يبزغ الفجر حتى تنطلق العائلات نحو الحقول. وفي مشهد صباحي يشبه الكرنفال؛ صغار يحملون الدلاء، شباب يوازنون السلالم على الأكتاف، نساء بمناديل ملونة يرافقنهن قِرب الماء والقهوة، وكبار يتوكأون على عصيّهم. وحين يصلون، تُفرش الأقمشة حول الجذوع لتلقّط الثمار، وتُنصب السلالم وتُستعمل العصي القصيرة والطويلة لضرب الأغصان، فيغدو المكان مسرحًا لطقس سنوي مهيب.
ويتوزع العمل حسب القدرة والعمر؛ الأطفال يتسلقون بخفة بين الأغصان، والشباب يصعدون السلالم للأفرع العليا، والنساء والرجال الأكبر سناً يلتقطون الحبات المتساقطة. وتختلط الضحكات بالنداءات، وتنهمر حبات الزيتون على الأقمشة كزخات مطر صغيرة. ولإضفاء روح بهجة، يتعالى الغناء الشعبي؛ عتابا وميجانا ودلعونا، تتناوب فيه أصوات النساء والرجال لتجعل من الحقل ساحة غناء جماعي تكسر رتابة العمل، وتختزن ذاكرة شفوية من الحكايات ورسائل الغزل المبطّنة.
وإن اللباس بدوره هو جزء من الطقس؛ فقد اعتادت النساء اِرتداء تنانير واسعة تتحول إلى أوعية لجمع الثمار، وكان امتلاء "خرج التنورة" معيار مهارة وشطارة. وأما الرجال والفتيان فيرتدون جلابيات أو شراويل فضفاضة وقمصاناً بأكمام طويلة تحميهم من الخدوش، مع قبعات قش أو كوفيات تقيهم الشمس. وتكتمل الصورة بأباريق الشاي وسندويش الزيت والزعتر، حيث يُغلى الشاي على لهب الحطب ليُشرب في ظلال الزيتون، فيغدو مذاقه أطيب من أي مكان آخر.
ومع انتصاف النهار يحين موعد "الغداء الميداني"، وهو وليمة ريفية بسيطة لكنها عامرة بالدفء. وتُحضَّر عادةً أطباق تقليدية مثل خبز التنور والمحمر والزيت، وأحياناً المجدّرة أو المقالي، ويشارك الجميع بما تيسر من مؤونة البيت، لتصبح المائدة مشتركة وأجواء الألفة طاغية. وبعد استراحة قصيرة، يعود الجمع بحيوية لاستكمال الجني حتى آخر النهار. ورغم طول اليوم، لا يتذمّر أحد؛ فكل شجرة تُفرغ من حملها هي بشارة رزق وثمار عام كامل من الصبر والكدّ.
*- الروابط الاجتماعية والاقتصادية في موسم الزيتون.. العائلة أولًا*
موسم الزيتون في إدلب ليس مهنة زراعية، وإنما هو مناسبة اجتماعية بامتياز. فالعائلة الممتدة هي وحدة العمل الأساسية في القطاف التقليدي. وخلال أيام القطاف تتوحد العائلة كفريق واحد، إذ تتوزع المهام وتتداخل الأجيال، في مشهد يعزّز التضامن الأسري. فالجدّ يعلّم الحفيد طريقة قطف العنقود بلطف دون إيذاء الغصن، والأبناء يعملون جنبًا إلى جنب مع الآباء، والأعمام مع الأخوال، في ورشة عائلية يغلب عليها التعاون والمحبة. وكثيراً ما تُنسج في هذه الأيام حكايات عائلية تبقى في الذاكرة؛ كأن يتعرف شاب على ابنة الجيران خلال العمل ويخطبها، أو تحكى طرفة عن موقف طريف حصل لأحد أفراد الأسرة في حقل جارهم.
ولا يقتصر التعاون على الأسرة الواحدة؛ فقد كانت هناك تقاليد التعاضد بين الجيران والمعارف. يعرف الإدلبيون مفهوم "العونة" أو "الفزعة"، حيث يتطوع أهل القرية لمساعدة من لديه محصول وفير أو عائلة قليلة الأفراد. وفي الماضي، كان الناس يتعاونون مع جيرانهم بشكل تلقائي، يتنقلون من حقل لآخر كتفًا بكتف. وتجدر الإشارة إلى أن دور النساء أساسي في موسم الزيتون. وكانت المرأة الإدلبيّة عماد عملية القطاف. وإلى جانب الجني، تضطلع المرأة بمهام التنظيم والضيافة خلال اليوم: فهي التي توقد النار لإعداد الشاي، وتحضّر وجبة الفطور والغداء الميداني، وتجمع الأطفال لإطعامهم كي يواصلوا العمل. وعند المساء، تعود النساء لحمل عبء فرز المحصول وتنقيته في السهرات البيتية. وكثيراً ما تتحلق النسوة ليلًا حول أكوام الزيتون يَفصِلن الأوراق والعيدان، ويقسمن المحصول بين ما سيُعصر وما سيُخلّل للمؤونة من زيتون، ولا عجب إذن أن توصف سيدات الريف الإدلبي بأنهن "عامود بيت الزيتون"، فهن الحارسات على استمرار طقوسه ونقلها لأجيال لاحقة.
اقتصاديًا، يُعد الموسم مصدر رزق رئيسي. فالمزارع ينتظر غلته لسداد الديون وتأمين حاجات الشتاء، فيما تعتمد أسر فقيرة على دخله لتغطية نفقات ضرورية. ويوفر الموسم فرص عمل موسمية لعائلات لا تملك أراضٍ، إذ يعمل أفرادها كـ"فعّالة" مقابل أجر يومي يصل اليوم إلى ستة دولارات أمريكية. ورغم ظروف الحرب في الشمال السوري، ظل كثير من العمال ينتظرون الموسم لتأمين قوتهم، بينما برزت منظمات محلية تنظّم العمالة الموسمية لدعم الفئات الأشد ضعفًا مثل النازحين والأرامل وذوي الاحتياجات.
ويتجلى التكافل أيضًا في هدايا المواسم؛ إذ يرسل أصحاب البساتين تنك الزيت أو سلال الزيتون لأقاربهم وجيرانهم الذين لم يحالفهم الحظ، عربونًا للمحبة وإعادة توزيع بركة الموسم على الجميع. وهكذا يصبح موسم الزيتون مهرجاناً اجتماعياً واقتصادياً يحيي قيم التضامن، ويؤكد أن شجرة الزيتون في إدلب ليست مجرد مصدر غذاء، بل رمز متجدد للعطاء والانتماء.
*- التحولات ما بعد الثورة السورية وتبدّل الطقوس*
تركت السنوات الأخيرة بصمتها الثقيلة على طقوس الزيتون في إدلب. فبعد عام 2011، ومع اشتعال الحرب في المنطقة، انقلبت مواسم القطاف من أفراح وأهازيج إلى تحديات محفوفة بالمخاطر. حيث يصف أحد المزارعين موسمي 2015 و2016 قائلًا: "كنا نقطف الزيتون وعيوننا على السماء لاستطلاع الطيران، ونمشي في الأرض بحذر خوفاً من قنبلة غير منفجرة هنا أو هناك. في ذروة النزاع، اضطر الناس أحيانًا لترك بساتينهم دون قطاف إن كانت في خطوط الاشتباك أو قرب جبهات القتال. وتحولت بعض الحقول إلى ساحات معارك أو مناطق عسكرية، فحُرم أصحابها من الوصول إليها لسنوات. وشخصياً حضرت أحد مواسم الزيتون عندما بدأت بعض الطائرات الحربية عام 2014 بفتح الرشاشات على الأراض الزراعية المحيطة في جرجناز خلال موسم الزيتون، وألقت بعض القنابل العنقودية في نفس المنطقة الزراعية التي كنا نقطف منها.
كما أدى الاجتياج العسكري للنظام البائد وميليشياته لجنوب وغرب إدلب إلى خسائر مباشرة في ثروة الزيتون، حيث قامت الميليشيات بإقتلاع مئات آلاف شجر الزيتون، حيث قاموا في بلدتي جرجناز باقتلاع وقص أكثر من 56 ألف شجرة زيتون عدا الكرمة واللوزيات والتين. وقبل التحرير في 08 ديسمبر 2024م، كثير من آلاف البساتين الإدلبية أهملت، فباتت بوراً ويابساً والأرض قاحلة نتيجة انقطاع الحراثة والتقليم. ووجدنا البساتين التي كانت كثيفة وتفصل المدن والقرى عن بعضها بوراً، ولا تجد فيها إلا الأرض القاحلة والأعشاب الطويلة، وأكوام الحجارة في القرى والبلدات التي كانت فيها قوات النظام السوري البائد.
وعلى الصعيد الاجتماعي، تراجعت بعض الطقوس التقليدية أمام ضرورات الحرب القاسية. فقد انخفضت مشاركة الأسرة الكاملة في القطاف خلال أخطر السنوات؛ إذ غالباً ما كان الرجال فقط يخرجون للعمل بينما تبقى النساء والأطفال في المنزل حفاظاً على سلامتهم. وكذلك تراجع تقليد التعاون الجماعي؛ فلم يعد الأقارب أو الجيران يتنقلون بحرية بين الحقول كما كان في السابق، خوفًا من التجمهر الذي قد يكون هدفاً أو لضيق الوقت المتاح للعمل تحت القصف. ونتيجة النزوح وموت الكثيرين أو هجرة الشباب، اضطرت عائلات كثيرة للاستعانة بعمال مأجورين غرباء لأول مرة، ما أضفى شعورًا بأن القطاف بات "واجباً ثقيلاً" أكثر منه مناسبة اجتماعية سعيدة.
وهذا التغير الاقتصادي كان صارخاً أيضاً، حيث انخفضت جدوى زراعة الزيتون مع صعوبة التسويق وانخفاض الأسعار في سنوات الحرب. بعد أن كانت زيوت إدلب تُنقل وتباع في مختلف المحافظات وتُصدّر لدول العالم حتى الأمريكيتين، كذلك تراجعت إنتاجية الأشجار لأسباب مناخية وبيئية: موجات الحر الشديد وقلة الأمطار أثرت سلبًا وخفّضت المحصول لدى بعض المزارعين إلى النصف وكل ذلك أدى إلى تراجع العائد المادي بشكل حاد؛ حتى إن مزارعاً في سراقب اشتكى قائلًا: "هذا العام بعتُ كل الزيت ولم أتذوق منه قطرة… فلم يعد مربحاً"، مؤكدًا أن ما كان يغطّي نفقات نصف سنة للأسرة لم يعد اليوم يسد رمق الشتاء. ورغم وجود مزارع الزيتون في شمال إدلب، ولكن خفت إنتاجية المحافظة ككل قياساً لفترة ما قبل الحرب، وبات التصدير قليلاً قياساً للمراحل السابقة.
وهكذا تنتهي حكايتنا مع موسم الزيتون الإدلبي، ولكن الحكاية نفسها لا تنتهي. فمع كل قطرة زيت تُعصر من المعصرة، وكل رغيف تنور يُغمّس في "زيتٍ طالع من المعصرة على رائحة النار"، يتجدد العهد بين الإنسان السوري والأرض. وعهدٌ مفاده أن تظل إدلب الخضراء أرض الزيت والزيتون، وليس فقط عاصمة المحررين، وإنما أرض التراث والقيم الجميلة، وموطن حكايات المجتمعات التي ستروى دوماً مع كل موسم قطاف.