تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة

13/10/2025 - ياسين الحاج صالح

اوروبا تستعد للحرب

13/10/2025 - د. إبراهيم حمامي

من الفزعة إلى الدولة

13/10/2025 - حسان الأسود

انتخاب أم اصطفاء في سورية؟

13/10/2025 - احمد طعمة

المسار التفاوضي بين الحكومة السورية وقسد.. إلى أين؟

01/10/2025 - العقيد عبدالجبار العكيدي

أعيدوا لنا العلم

18/09/2025 - أحمد أبازيد


من الفزعة إلى الدولة




تشكّلت الدولة تاريخيًا من حاجة المجتمع لسلطة منبثقة عنه وتقبع فوقه لتمكّنه من إدارة المصالح والاختلافات فيه. فكانت تدرّجات الدولة متصاعدة في التعقيد إلى أن وصلنا إلى أشكال ابتلعت المجتمع ذاته، أو حاولت ذلك على الأقل، كما حصل مع دول المنظومة الاشتراكية التي حاولت اختصار المجتمع بالدولة.


 

كذلك تتشكّل الدول من جرّاء الحروب والنزاعات، وعندما تتغير أنظمة الحكم بعد الثورات أو الانقلابات عادةً ما تستمر الدول السابقة مع بعض التعديلات الطفيفة التي تتناسب ونظام الحكم الجديد. ففي العصور الحديثة أخذت الدولة شكلًا شبه موحّد من حيث تقسيم السلطات وتوزيعها ومن حيث مؤسسات الحكم. فجميع الدول لديها جيوشٌ وأجهزةٌ للأمن والشرطة، وجميعها لديها حكوماتٌ وأجهزةٌ تنفيذية، وفي جميع الدول محاكمُ تتّبع نظامًا قضائيًا محددًا، وهناك على الدوام أشكال للسلطة التشريعية التي تعني بدرجة أو بأخرى إظهار صوت المحكومين والحاكمين وتجسيد إرادتهم من خلال القوانين والرقابة على السلطة التنفيذية. ومهما اختلفت درجات القوّة أو الصلاحيات بين هذه المؤسسة وتلك وهذا الجهاز أو ذاك، فإنّ الرابط العام بينها جميعًا هو أنها تمثّل المفهوم المجرّد المسمّى "الدولة" الذي لم يعد بإمكان أي مجتمع العيش بدونه.

في بعض الثورات المديدة مثل الثورة السورية، رأينا كيف اهترأت الدولة ومؤسساتها، وهذا خلق الحاجة لبدائل عند جميع الأطراف التي تمكّنت من السيطرة على أجزاء من الجغرافيا السورية.

في أوقات الأزمات، وعندما تضعف الدولة أو عندما تهترئ مؤسساتها ولا تعود قادرة على القيام بوظائفها، يرجع الناس إلى البدائل الممكنة، وغالبًا ما تكون أشكالًا من البنى التي بقيت موجودة رغم تطوّر مفهوم الدولة، مثل القبيلة أو الطائفة الدينية أو النقابة أو غيرها من البنى التي تجمع الناس على أسس أضيق من كونهم مواطنين. قد يكون الرابط هو صلة القرابة والعلاقة التراحمية، فنكون أمام القبيلة. وقد يكون الرابط الاشتراك في الدين أو الطائفة الدينية أو المذهب، فنكون أمام مؤسسة دينية تجمع الناس على أساس المعتقد. كما يمكن أن نكون أمام رابطة العمل أو المهنة أو الحرفة، وهذا النوع من الروابط أكثر تقدّمًا باعتباره من مفرزات العصور الحديثة والتي تقترب في بعض أوجهها من روابط المواطنة المجرّدة. تقوى أدوار هذه الروابط عندما تضعف الدولة، ويلجأ الناس إليها للحماية ولتحقيق الاستمرار وللحفاظ على المصالح أو لتحقيق الأهداف. هكذا رأينا في الدول التي ضعفت جدًا من جرّاء الحروب الأهلية الطويلة، مثل الحرب اللبنانية، كيف أنّ كل فريق وكل طائفة أنتجت مؤسساتها الخاصة والرديفة لمؤسسات الدولة. بعض هذه المؤسسات استمر حتى أصبح أقوى من الدولة اللبنانية مثل بعض مؤسسات حزب الله العسكرية والأمنية والمالية، وبعضها تراجع تأثيره تبعًا لتراجع تأثير الجماعة ذاتها.

في بعض الثورات المديدة مثل الثورة السورية، رأينا كيف اهترأت الدولة ومؤسساتها، وهذا خلق الحاجة لبدائل عند جميع الأطراف التي تمكّنت من السيطرة على أجزاء من الجغرافيا السورية. هكذا رأينا تشكيلات حوكمية قريبة من بنى ومؤسسات الدولة كما في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية ومناطق سيطرة هيئة تحرير الشام قبل سقوط النظام، ومناطق سيطرة الفصائل المدعومة من تركيا. وكان هناك أشكال مختلفة في بعض المناطق التي ظلّت تحت سيطرة النظام جزئيًا مثل السويداء وبعضها الآخر الذي خرج عن سيطرته كليًا لكنّه عاد إليها بعد أعوام مثل درعا. تلك المناطق أوجد أهلها فيما بينهم وسائل بديلة للحماية وللسيطرة ولتحقيق المصالح لم تكن جميعها تمرّ من تحت يد الدولة أو مؤسساتها الرسمية. لقد أثبتت هذه الوسائل البديلة نجاعتها في كثير من الأحوال، خاصّة عندما كانت مؤسسات الدولة ضالعة في عمليات التخريب المتعمّد لبنى المجتمع. على سبيل المثال، استطاع أهل حوران سهلًا وجبلًا تفادي النتائج الكارثية لجرائم الخطف المتبادل التي كانت تقوم بها مجموعات متخصصة مدعومة من فرع الأمن العسكري ومن حزب الله طوال أعوام الثورة الأربعة عشر، فلم تتحوّل تلك الجرائم إلى حرب طائفية كما كان يحاول دفعهم إليه نظام الأسد وأجهزته المختلفة وحلفاؤه.

في اللحظة السورية الراهنة، وحيث تجد الدولة السورية ذاتها محاصرة في خانة الضائقة المالية الناتجة عن انهيار بنى الاقتصاد السوري المتعددة، سواء على مستوى الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو السياحة، وسواء على مستوى استثمار الثروات الباطنية من فوسفات ونفط وغاز وغيرها، فإنّها تجد الفرصة سانحة للاستثمار في المؤسسات البديلة التي أوجدها السوريون والسوريات للتعامل مع الواقع المزري الذي أوصلهم إليه النظام البائد. من هنا رأينا حملات شعبية من قبل "أربعاء حمص" و"لعيونك يا حلب" و"أبشري حوران" و"ريفنا بيستاهل" و"دير العزّ" و"الوفاء لإدلب" وغيرها سيأتي لا ريب على الطريق. حاجة الدولة لهذه المبادرات قد تتساوى مع حاجة المجتمع لها إن لم نقل إنها تفوقها، فالعبء الذي تحمله عن كاهلها ليس بالهيّن. وصحيحٌ أنّ إعادة الإعمار وإعادة سوريا للحياة الطبيعية أكبر من أن يقوم بها أفرادٌ أو مجموعات، وصحيحٌ أنّ المشاريع التي ستنفذها تمويلات هذه المبادرات ستبقى صغيرة جدًا ومحدودة، إلا أنّها ستخفف الضغط السياسي على الحكومة الانتقالية بالدرجة الأولى. فكما هو معلوم، فإنّ تباطؤ الحكومة في تنفيذ وعودها أو تأخر عمليات استقرار الأمن والتنمية، وتعثر ملفات العدالة الانتقالية وغيرها، كلها ستسبب اضطرابات مجتمعية وسياسية بالنهاية، وهذا ما تحاول الحكومة أن تتفاداه في اللحظة الراهنة، خاصّة مع الضغوط الخارجية الممارسة عليها والتحديات الكبيرة، ولا سيما تحديات التدخل الإسرائيلي الفاضح.

هناك انقسام واضح في الشارع السوري بين نخبة سياسية وثقافية تسعى لفتح المجال العام للمشاركة السياسية، وبين جمهور واسع لا يرى ضرورة لذلك إن لم نقل إنّه لا يرغب فيه بسبب فقدانه الثقة بالنخب التي تصدّرت المشهد السياسي طوال أعوام الثورة.

السؤال الذي يمكن طرحه في مجموعة المبادرات هذه هو: هل هناك خلفيات سياسية لهذه المبادرات، أو هل يمكن أن تتطوّر مثل هذه التحركات الاجتماعية لتنقلنا إلى مستوى سياسي ما؟ الإجابة المبدئية لهذا السؤال تبدو سهلة، لكنّها في الحقيقة غير ذلك، والسبب في هذا يعود لعوامل عديدة، منها طبيعة السلطة الحاكمة الآن، وطبيعة الانقسام السياسي الواقعي بسبب وجود مناطق خارجة عن سيطرة السلطة المركزية في دمشق، وطبيعة المجتمع ذاته والحركات السياسية والتنظيمية فيه. فالسلطة الراهنة في دمشق رفضت الاعتراف بأية قوى سياسية حزبية أو تنظيمية من أي شكل كان، فهي تريد بشكل لا لبس فيه احتكار السياسة لنفسها، وهكذا ستضمن في المستقبل أن تكون هي الوحيدة القادرة على تنظيم قواها فيما لو اضطرّت للسماح بإصدار قانون أحزاب مستقبلًا، وهكذا ستضمن الاستمرار في الحكم والسيطرة عدّة أعوام إلى أن تتشكل القوى السياسية الجديدة. هذا النهج واضح لا حاجة للتأكيد عليه في كل حديث، فالهيئة السياسية المستحدثة، والتي حلّت مكان حزب البعث، تحتكر السياسة الآن بلا منازع، ولا تستقبل الفاعلين السياسيين إلا بصفاتهم الفردية لا بصفاتهم التنظيمية مهما علا شأنها.

على صعيد المجتمع هناك انقسام واضح في الشارع السوري بين نخبة سياسية وثقافية تسعى لفتح المجال العام للمشاركة السياسية، وبين جمهور واسع لا يرى ضرورة لذلك إن لم نقل إنّه لا يرغب فيه بسبب فقدانه الثقة بالنخب التي تصدّرت المشهد السياسي طوال أعوام الثورة. هذا الأمر يجعل القائمين على المبادرات المذكورة خارج إطار التفكير السياسي المباشر، وإن كنّا نعتقد أنّ فعلهم سيؤدي في النهاية إلى زحزحة البناء توسعًا باتجاه السياسة. كل فعل اجتماعي أو ثقافي أو فني هو بالنهاية ذو أثر سياسي. وإذا ما كانت إعلانات المتبرعين من أهل الخير في هذه المبادرات تركّز على الجوانب الأخلاقية والاجتماعية ظاهريًا، إلا أنّها في الحقيقة تؤسس لقبول سياسي بدرجة أو بأخرى. والطموح مشروع لكل الأفراد بلا ريب.

المهم في هذا النقاش كلّه أن تتحوّل المبادرات الأهلية المشبوبة بالعاطفة والتضامن الاجتماعي إلى حراك سياسي يؤسس لأحزاب تتنافس على السلطة من خلال برامج انتخابية واضحة هدفها في النهاية المواطن الإنسان. ومن دون هذا سنبقى نراوح في ساحة الفزعة بعيدًا عن ميدان الدولة ومضمارها الواسع.
------------
تلفزيون سوريا


حسان الأسود
الاثنين 13 أكتوبر 2025