إن أراد السوريون تشييد دولة جديدة بعد انهيار نظام بشار الأسد، فلا بد أن يتذكّروا اسمًا واحدًا: بوريس يلتسين. هذا الرجل اختُزل في رمزٍ لمرحلةٍ ظن فيها شعبٌ أن الخلاص يكمن في زعيم واحد، يجمع مفاتيح الدستور والاقتصاد والأمن في جيبه.
في روسيا التسعينيات، تحوّل الدستور إلى أداة مفصّلة على مقاس الرئيس، تمنحه الحقّ في قصف البرلمان إن لزم الأمر، وتمنح يده الطولى في تعيين القضاة وتحديد من يقف فوقهم.
ازدهرت طبقة من رجال الأعمال المرتبطين بالكرملين، وتحولت الخصخصة إلى غطاء لنهب الثروة العامة. وسقط المجتمع في أتون صراع طبقي حاد، أشعلته أزمات الرواتب، والتضخم، والانهيار الاجتماعي. من رحم تلك الفوضى وُلدت أوليغارشية تملّكت الاقتصاد والإعلام، بينما انكفأ البرلمان رهبة من الحل، وانكمش القضاء تحت سطوة الأوامر الرئاسية.
هكذا أُغلقت الصفحة الديمقراطية الروسية قبل أن تُفتَح فعليًا.
وسوريا الغد تقف اليوم على أعتاب منحدر مشابه. فإن انساقت لإغراء "القبضة الواحدة" تحت ذرائع استعادة الأمن وإنعاش الاقتصاد وتسريع الإعمار، فإنها تعيد كتابة فصول المأساة الروسية، ولكن بحروف عربية. لنتصوّر مشهدًا مألوفًا: رئيس انتقالي يتذرّع بـ"شرعية ثورية" ليشرّع بالمراسيم، يعيّن القضاة تحت شعار "توحيد المؤسسات"، ويؤجل الانتخابات بحجة الإحصاء وترسيخ الاستقرار. في لحظة، تتحوّل الثورة إلى تفويضٍ مفتوح، والمعارضة إلى واجهة ديكورية على شاشات الإعلام الرسمي، فيما تنشأ شبكات مصالح من أمراء الحرب وتجار الإعمار تلتهم ما تبقّى من مقدرات البلاد.
الفرق الجوهري بين التجربتين أن روسيا احتاجت عقدًا لتدرك عمق الكارثة، أما سوريا فستشعر بآثارها خلال أشهر، فالمجتمع المتشظي، والطائفية المسلّحة، والاقتصاد المنهار، لا تحتمل مغامرة إعادة إنتاج "الرجل الأوحد". وإذا تكرّرت التجربة الروسية، فستجد دمشق نفسها أمام أوليغارشيات عسكرية تتقاسم مرافئ اللاذقية وحقول الفرات ومعابر الشمال، وبرلمان منزوع الصلاحية لا يجرؤ على مساءلة أصغر ضابط مخابرات. سيغدو القصر الجمهوري محطة عبور إلزامية لكل عقد استثماري، ولكل امتياز جمركي، وتُخنق الحريات باسم حماية الاستقرار، تمامًا كما خُنقت في الكرملين باسم الإصلاح.
روسيا اليوم تحاول تصحيح إرث ذلك العقد الكارثي عبر إعادة مركزية الدولة، لكن الثمن كان باهظًا: إغلاق الأفق السياسي، تعزيز سطوة الأجهزة الأمنية، والدخول في مواجهة مكلفة مع الغرب. فهل يودّ السوريون تكرار المسار ذاته ليصلوا في النهاية إلى نسخة أشد قسوة من السوبر رئاسية بعد عقدٍ من الزمن؟
طريق الإنقاذ واضح، لكنه يتطلّب شجاعة في تحطيم الأصنام الذهنية. يجب أن يُبنى الدستور على أنقاض فكرة "الرئيس المنقذ"، لا على جسده. فالمؤسسة التشريعية المنتخبة هي شريان الحياة لأي نظام جديد، لا زينة يُستغنى عنها في العواصف. القضاء المستقل يجب أن يكون ملاذًا للضعفاء قبل أن يكون أداة بيد الأقوياء. واللامركزية ينبغي أن تكون جسرًا للوحدة، لا قنبلة تقسيم، لأنها تُعيد السلطة إلى الناس لا إلى المكاتب المغلقة.
وقبل كل شيء، لا بد من قاعدة ذهبية: لا مساس بصلاحيات السلطتين التشريعية والقضائية مهما كانت الذرائع الأمنية، فالأمن الحقيقي يولد من ثقة المجتمع بمؤسساته، لا من عسكرة السياسة.
يا أبناء سوريا، لقد دفعتم ثمنًا فادحًا لهدم صنم الاستبداد. فلا تسمحوا لقلقكم من الفوضى أن ينحت صنمًا جديدًا، أكثر بريقًا، وأشد بطشًا. تذكّروا أن روسيا التسعينيات دخلت كتب التاريخ كنموذج لانهيار دولة عريقة على يد دستور صُمّم لقائد واحد. فلا تجعلوا من ثورتكم جسرًا يعبر عليه "سوبر رئيس" إلى قصرٍ لا يخرج منه إلا بعنف العسكر أو أنين الجياع.
احموا برلمانكم وإن بدا هشًا، وساندوا قضاؤكم ولو تعثّر، وصونوا إعلامكم وإن علا صوته، فكل مؤسسة تُقمع اليوم ستتحوّل إلى بندقية موجهة إلى صدوركم غدًا. إن سوريا لا تحتاج بطلًا جديدًا، بل عقدًا اجتماعيًا جديدًا؛ عقد يوزّع السلطة كما يوزّع الماء، حتى لا يعاود نهر المواطنة الجفاف.
الدرس الأخير الذي ينبغي ألا يغيب عن الأذهان هو أن التفويض المفتوح لا يصنع دولة، بل يُنشئ متاهة لا يملك مفتاحها إلا من منح التفويض لنفسه. في روسيا التسعينيات، تحوّلت شرعية الصناديق إلى ورقة تين تغطي خصخصة الدولة ومقدّراتها، وعندما استفاق الشعب، كان العقد الاجتماعي قد تلاشى، واستحكم رجال المال والإعلام في رقاب العباد بما عجزت عنه دبابات الجيش.
ظنّ الروس أن الخلاص من إرث السوفييت يمر عبر تعزيز الرئاسية، فاكتشفوا متأخرين أن المركزية المفرطة تعيد إنتاج الفوضى، ولكن بقفازات حريرية.
لهذا، ينبغي على السوريين أن يقلبوا المعادلة: الدستور وُضع ليحمي المجتمع من الدولة، لا العكس. ومؤشرات التقدّم في المرحلة الانتقالية تُقاس بما يُوزّع من صلاحيات أفقيًا ورأسيًا، لا بعدد الشعارات المعلّقة على جدران القصر.
سوريا تملك اليوم فرصة لتجاوز الزمن إذا ما استوعبت الدرس الروسي بكافة أبعاده: العبور الآمن من الحرب إلى السلم يمر عبر مؤسسات تُبنى قبل المصالح، لا العكس. ويجب أن يُخضع أي رئيس قادم لموازنةٍ مقرّة بقانون، ورقابة برلمانية شفافة، ومدد رئاسية صارمة غير قابلة للتمديد بذريعة الضرورات الوطنية.
كما ينبغي أن يصبح تعيين كبار القضاة شأنًا عامًا تُشارك فيه السلطة التشريعية ونقابات المحامين، لا قرارًا يتّخذ في غرف مغلقة. وكلما ارتفع صوت يُنادي بتأجيل الانتخابات أو توسيع الصلاحيات بدعوى "الأمن القومي"، تذكّروا قصف البرلمان الروسي عام 1993، وتخيّلوا مصير البرلمان السوري إن استُبيح منطق القوة مجددًا.
ولا تنخدعوا ببريق الوعود ومشاريع الإعمار ورؤوس الأموال الواردة. فكما أتت الشركات إلى روسيا حاملة الوعود ورحلت بأصول الطاقة والمعادن، يمكن أن تبتلع ثروات سوريا إذا غابت الشفافية. الاقتصاد السوري بحاجة إلى رسملة، ولكن عبر قانون منافسة عادل، وسلطة مالية منتخبة، وإعلام تحقيقي مستقل يكشف الصفقات قبل أن تتحوّل إلى كوابيس واقعة.
وأخيرًا، فإن أخطر ما علّمتنا إياه روسيا التسعينيات هو أن غياب العدالة الانتقالية يحوّل ملفات الجرائم إلى أوراق مساومة بين أركان النظام القديم والجديد، ويُشرعن الإفلات من العقاب.
وسوريا لا تملك رفاهية تكرار هذا السيناريو."