يمثل هذا التوجه قطيعة مع نموذج سابق ارتكز على ترك الدول الهشّة تواجه مصيرها، مع الحفاظ على حدّ أدنى من التدخل الخارجي المباشر، والاكتفاء بفرض خطوط حمراء تتعلق بمحاربة الإرهاب وحماية المصالح الحيوية. إلا أنّ هذا النموذج أثبت محدوديته، سواء بالنسبة لواشنطن أو لحلفائها، خصوصًا إسرائيل التي وجدت نفسها أمام واقع تتنامى فيه قوى غير خاضعة للدولة، وتتحرك وفق حسابات لا يمكن ضبطها بسهولة.
ومع ذلك، فإن النموذج الذي يبنى حاليًا والقائم على دعم "السلطة القوية"، والمقبولة شعبيا، لا يخلو من تناقضات بنيوية، بدءًا من تضارب مصالح القوى الداعمة نفسها، وصولًا إلى طبيعة الأنظمة التي يُراد إعادة تشكيلها. فإسرائيل، على سبيل المثال، وإن بدا أنها تستفيد من وجود سلطات مركزية قادرة على ضبط حدودها، إلا أنها تعتمد في مستوى آخر على حالة هشاشة إقليمية تضمن استمرار تفوقها العسكري والسياسي. وهذا ما يفسر اندفاعها للقيام بإعمال عسكرية ضد أي دولة من دول المنطقة، حتى وإن كانت المبررات غير واضحة. أما التناقض الأعمق فيتعلق بأنّ الدول العربية التي انهارت خلال العقد الماضي لم تسقط لأنها كانت ضعيفة، بل لأنها كانت سلطوية وغير خاضعة للمساءلة، وتعاملت مع الدولة بوصفها جهازًا للضبط أكثر منها منظومة للشرعية وتداول السلطة. لذلك، فإن إعادة تمكين أنظمة مشابهة، حتى لو بدت أكثر انضباطًا أو تعاونًا مع القوى الدولية، يعني في جوهره إعادة إنتاج الظروف نفسها التي أدّت إلى الانهيار.
أمام هذه الإشكالية، تكشف التجارب الجارية في العالم العربي عن مفارقة أساسية: فبينما تسعى القوى الدولية إلى استعادة النظام بأي ثمن، تبدو معظم المجتمعات العربية أكثر اهتمامًا بإعادة تأسيس الدولة على قواعد جديدة تُشرك المواطنين وتمنح المؤسسات شرعية حقيقية.
وهذا ما يبدو بوضوح في الحالة السورية، فإشكالية استعادة النظام أو بناء دولة القانون أكثر تعقيدًا مما هي عليه في أي ساحة عربية أخرى. فبعد نحو عقد ونصف من اندلاع الثورة، وما تلاها من صراع مدمر، لم تعد سوريا دولة منهارة فحسب، بل ساحة تتقاطع فيها مشاريع إقليمية ودولية تتباين في أهدافها ورؤاها لمستقبل البلاد. ولعلّ سقوط النظام السابق في نهاية عام 2024 مثّل نقطة تحوّل كاشفة؛ إذ أظهر أن الفراغ الذي خلفه انهيار النظام السابق يمكن أن يملأه فاعل يمتلك قدرة تنظيمية، لكنه يحتاج إلى مشروع دولة بالمعنى المؤسسي. وعلى الرغم من أن بعض القوى الدولية والإقليمية تعاملت مع هذا التطور بوصفه فرصة لإعادة تشكيل توازنات الصراع وضبط الحدود الأمنية، فإن ما يهم تلك القوى ليس بناء دولة القانون بقدر ما كان إعادة ترتيب لعلاقات القوة والنظر إلى سوريا من زاوية الحسابات الأمنية والجيواستراتيجية. وهذ يضع السلطة الجديدة في سورية أمام تحدي الموازنة بين دول القوة وقبولها من المجتمع الدولي وبين تحقيق دولة القانون. إن فرض الاستقرار من أعلى، أياً كان الفاعل، لا يمكن أن يكون بديلًا عن بناء دولة القانون التي تنبع شرعيتها من المجتمع.
هذه المقاربة تدفعنا إلى تقدم قراءة لطبيعة الفعل السياسي في دول الربيع العربي؛ فالمنتفضين، ومنذ عام 2011 لم ينزلوا إلى الشوارع بوصفهم ضحايا لسياسات التهميش والعنف فحسب، بل بوصفهم فاعلين يصوغوا فضاءً سياسيًا من أسفل، ويعيد تشكيل المجال العام بطرق يومية، عبر العمل، والتفاعل، وبناء الثقة، والتضحية. ومع توسع هذه الفضاءات، أصبح هؤلاء مصدرًا للطاقة الاجتماعية والسياسية التي حرّكت الاحتجاجات والعمل السلمي، ولاحقًا دفعت بمسار الانتقال السياسي، حتى وإن تعرض هذا الانتقال لانتكاسات بفعل تدخلات القوى العسكرية والإقليمية.
وإذا عدنا إلى النموذج الجديد الذي تحاول أمريكا التأسيس له يمكن القول إن أي قراءة متأنية لهذا النموذج تكشف أنه نموذج محكوم بعوامل هشاشة لا تقل عمقًا عن تلك التي أطاحت بالأنظمة التسلطية في دول الربيع العربي. فبناء سلطة بالقوة لا يؤدي بالضرورة إلى بناء مؤسسات قادرة على الاستمرار؛ والتحكم الأمني، مهما بلغ، لا يمكن أن يتحول إلى شرعية تُدار بها دول متعددة البنى والهويات. ما يحدث هنا قد لا يكون بناء دولة القانون، بل استبدال منظومة سلطوية بأخرى، مع اختلاف الوجوه والرموز.
هذه المفارقة — بين مسار يتشكل من المجتمع، ومسار يُفرض بالقوة — تعيد النقاش إلى السؤال الجوهري: هل المطلوب استعادة النظام السياسي بأي صيغة، أم إعادة بناء الدولة على أسس جديدة؟ التجارب العربية خلال العقد الماضي تشير بوضوح إلى أن استمرار الرهان على "النظام القوي" قد يمنح استقرارًا مؤقتًا، لكنه لا يعالج الأسباب العميقة للأزمات. فغياب المشاركة السياسية، وضعف المؤسسات المستقلة، وتركّز السلطة والثروة، كلها عوامل تجعل أي استقرار غير قابل للاستمرار. وفي المقابل، تبدو التجارب التي تنشأ من تفاعل المجتمع — حتى وإن كانت بطيئة ومعقدة — أكثر قدرة على توليد شرعية حقيقية، وأقدر على إنتاج صيغ استقرار لا تعتمد على القسر وحده.
إن الخلاصة التي يمكن أن تستخلصها المنطقة اليوم هي أن الدولة العربية بحاجة إلى إعادة تعريف لا إلى إعادة تشغيل. وهناك دراسات مهمة ظهرت في الأعوام الأخيرة تبين أهمية التفكير في الدولة العربية ومساراتها في المستقبل. فالدولة التي تُبنى من أعلى، عبر صفقات دولية أو ترتيبات أمنية، قد تنجح في فرض النظام، لكنها تفشل في بناء الثقة. بينما الدولة التي تتأسس عبر انخراط المجتمع، وعبر مؤسسات خاضعة للمساءلة، قادرة على تجديد نفسها وتجاوز الأزمات بدل أن تنتجها. ويبدو أن السلطة الجديدة في سورية، وكذلك في لبنان والعراق تحاول أن توازن بين المسارين، على الرغم من الصعوبات والضغوط الخارجية، غير الآبهة بالأوضاع الداخلية لهذه الدول.
ولعلّ الفرق بين استعادة النظام وبناء دولة القانون هو بالضبط الفرق بين إدارة الأزمة وحلها. فالأولى تؤجل الانفجار، أما الثانية فتضع أسسًا تجعل وقوعه أقل احتمالًا. وفي عالم عربي يزداد اضطرابًا، يبدو أن الخيار بين النموذجين لم يعد مجرد تفضيل سياسي، بل بات مسألة بقاء للدولة نفسها، وهذا ما على السلطة الجديدة في سورية أن تجعله من أولوياتها.
----------
تلفزيون سوريا


الصفحات
سياسة








