نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التريمسة...حين يلتقي العائد بظلّه

24/06/2025 - عبير داغر إسبر

انهيار إمبراطورية إيران

17/06/2025 - براءة الحمدو

حزب حاكم جديد في سورية

08/06/2025 - بشير البكر

المفتي قبلان صاحب الرؤية

02/06/2025 - يوسف بزي

المثقف من قرامشي إلى «تويتر»

24/05/2025 - د. عبدالله الغذامي :

التانغو" فوق حطام المنطقة

22/05/2025 - عالية منصور


التريمسة...حين يلتقي العائد بظلّه





طلع الصباح على شمال إدلب، ليس ككل صباح. لم يكن السوريون العائدون من مخيم التريمسة(*) يمشون باتجاه قريتهم فحسب، كانوا يعبرون نحو أسطورتهم الشخصية، نحو نقطة الأصل. برمزية محمّلة بألف تأويل، يعودون ذاك العود الأبدي، إلى "هناك"، إلى مألوفية المكان، إلى البيت، يتلمسون بتؤدة معنى الموئل والسكنى. يعودون كما الطير، يتورّط الشعر هنا، ويقف النثر عاجزاً عن الغناء،. إذ قرأنا الخبر، رأيناه مصوّراً في لحظات أو دقائق، فتورّطنا والسلام. ورّطتنا بتأويلاتها هذه اللحظة المتفجّرة بالمعنى.


 
فالبيت مفهوم وُلد من رحم المجاز، لم يُخلق لنُقيم فيه، بل لنعود إليه، كما يعود الأبطال في قصص الأوّلين، منهكين من السكنى في أمكنة موحشة ومهدودي القامة من ترحال لا يهدأ، يعودون إلى "الهناك" بعد كثير من تيه وتعب. يعودون من ضلال في خرائط لم تدلّهم على شيء، فكأن العالم الذي اختبروه لا يُقاس بمساحاته، لا بمدنه وغرباء تلك المدن، ولا بعدد سكانه، وحشيّ الاكتظاظ همجيّ الوفرة، بل يُقاس العالم كما يفهمونه -وكما دائمًا- بالمسافة التي تفصلهم عن بيتهم الأول.

عاد أهل مخيم التريمسة إلى مكانهم، كانوا يردّدون اسم قريتهم كتعويذة ضدّ النسيان، مزيحين غبار أربعة عشر عامًا عن حقائبهم، سائرين في اتجاه بيوتٍ لم يعد لها جدران، لكنها ما زالت تتنفّس في عروقهم. فالعائد لا يبحث عن ماضٍ تركه وراءه، بل عن مستقبلٍ يُشبهُ ما حلم به قبل الرحيل.

لم تُخلق البيوت لنسكنها، بل لنعود إليها
كخبراء ترحال، يعلم معظمنا أن البيت هو رحم أول، نشتاقه لأننا لا نعرف غيره، فقد عُقدت حبالنا السرّية وربطت بسرّة أرضٍ لم نعرف غيرها أمًّا. أمٌّ رمتنا على عتبات أرضها الموحلة بعدما نَخَستنا بروائحها، وموسيقاها، وأرضعتنا من نَسغ نباتاتها ماءً وحنانًا. وأفلتتنا للرحيل، لنستدلّ عليها كصوفيٍّ يتلمّس وجه الله، صوفيٍّ بحث عن معنى الوطن، فصار على يديه وطنًا أمًّا.

الجغرافيات الأولى وانسلاخنا عن الأرحام
في حديث الأمكنة، لا تحمل جغرافيا مكاننا الأول خرائط فعلية من خطوط للطول والعرض، لا تحمل قراءات الأمكنة تعريفًا كمّيًا لحجم التدفق في مياه الطوفان الكبير، وتعجز الطواحين العملاقة عن قياس سرعة الهواء في كل رحيل.

منذ كنا، امتلكت الجغرافيا بوصلتها التي تعرّف كل اتجاه. إذ حضرت معنا منذ الخلق. لذلك ومنذ ارتباط حكايتنا بالزمان والمكان، علّمتنا الجغرافيا لغة لا تُقرأ، بل تُستشعر رموزها كما يُستشعر الغيم وتُختبر الحواس. ويُقهر الظلام بالنور. لهذا، نعلم كمرتحلين أصلاء أن المكان الذي نعيش فيه لن يصبح مكانًا إلا إن افتقدناه، أو افتقدنا أنفسنا فيه. فنحن لا نعرف من الأمكنة سوى ذاكرتنا عنها. والعودة، هنا، ليست انتقالًا جغرافيًا فحسب، بل فلسفيًا ووجوديًا. إنها استعادة للهوية من أرصفة المنافي، تصحيح لمسار الزمن، واعتراف ضمني بأن الانتماء ليس انتقائيًا بطبعه، وليس فعلاً واعيًا كما تدّعي العولمة التي لا تبغي سوى تسويق تاريخ عبثي من حروب ونزوح واستعمار.

عائدون..
في مخيم التريمسة، كانت البيوت المرتجلة تتجاور كقوارب مهجورة لشاطئ بلا بحر. بينما مرّت الأعوام الـ14، لا ليموت الوقت فيها، بل ليعيش ويتكرّر لعناتٍ لا تُرد. في الشمال السوري البعيد كما ينبغي لشمال، وُلد الأطفال في المخيمات، كبروا هناك، نضجوا وشكّلوا معارفهم ومشاعرهم. ما يحبّون وما يكرهون، فصار أن تحولت كل خيمةٍ إلى وثيقة هوية بأسماء مستحدثة.

سمعنا عن مخيم كفرزيتا، مخيم خان شيخون، مخيم التريمسة. إذ حضرت الأسماءُ  كرفوف متراصّة من معارف موجعة، أرشيف متنقّل من وجع وذاكرة تأبى أن تتركنا لنتصالح معها أو لننساها. اليوم أو البارحة، لا فرق، ومنذ الخزي السوري الأكبر، منذ 14 عامًا، استطاع السوريون تفكيك مخيمهم الأول. غادروه، هكذا كمن يضمّد جراحه. لَضَم السوريون خيطان معاناتهم وخاطوا حقائب العودة، وبكّلوا بأجسادهم "عُرى" الطريق.

لم تكن المخيمات جديدة على ذاكرة السوريين، فقد اختبروا وقعها في وجدانهم منذ نزوح أهل الجولان في سبعينيات القرن الماضي، اختبروا وجعها وبشاعتها في النزوح الفلسطيني فوق الأراضي السورية وفي بلاد العرب "أوطاني". سمع السوريون بأدبيات الخيام منذ الأزل، وراكموا المعارف في أزقتها، حيث يعلم كلّنا أن الوقت في المخيم هو كلّ ما تملك، والانتظار هناك ليس لعبة رفاهية، بل حياتك المعلّقة في الهواء. لذا، عندما فكّك السوريون مخيّمهم، حضر الفرح كهستيريا، كخزان حزن وانفجر.

لقد فهم السوريون، من دون أن يقرأوا هايدغر أو يتأمّلوا في مفاهيم الوجود، أن الإنسان لا يكون إنسانًا تمامًا إلا عندما يعود إلى مكانه الأول، وأنّ التيه هو الشرط الأول لفهم المعنى. فالمنفى لا يسرق الجغرافيا فقط، بل يغتصب الهوية والاسم أيضًا. في المخيمات، حين يمشي السوري نحو قريته، فهو يمشي أيضًا نحو اسمه الذي تركه وراءه، نحو نطقه الأول، وصوته المرنَّم في فم أمّه، ونغمة النداء في الأزقة. العودةُ هي أن تلمس جذورك بأصابع الحاضر، كأنك تصلح تمزّقًا  حصل في قماشة  الزمن، لتسأل السؤال الأول الذي لا يتوقّف عن ترقّب الإجابات: هل ما زال البيت يعرفك؟ هل مشيت ما يكفي من سنين كي تلتقي هناك بظلّك؟
___________________________________
المدن

(*) أُنشئ مخيم التريمسة في بدايات العام 2012 في منطقة قاح، على الحدود السورية-التركية، وكان ملاذًا لأكثر من مئة عائلة من بلدة التريمسة في ريف حماة، بعد تعرضها لقصف عنيف أدى إلى تهجير جماعي، وسُمّي المخيم باسم البلدة كنوع من التمسك بالهوية والانتماء.

عبير داغر إسبر
الثلاثاء 24 يونيو 2025