نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي


بالجريف بالجوف على أيام طلال بن الرشيد -2




في الحلقة الثانية من رصد بالجريف لمنطقة الجوف على أيام طلال بن الرشيد قبل أن يستولي عليها ابن سعود نلمح ما يفيد المؤرخ الاجتماعي فالرحالة الاشهر يغرق في تفاصيل القهوة وتقاليدها وطريقة انضاجها وصبها قبل ان يتحول الى مصور يصف حدائق الجوف في ذلك الزمان .


ويبدأ سويليم على الفور تجهيز القهوة، ويبدأ هذا التجهيز بخمس دقائق ينفقها سويليم في النفخ باستعمال المنفاخ، وتجهيز الفحم النباتي على نحو يعطي أكبر قدر من الحرارة، ثم يضع بعد ذلك " اللقمة" (1) ، وهي عبارة عن دلّة ضخمة، ثلثاها
مملوء بالماء الصافي، بالقرب من نقطة توهج الفحم، إلى أن تسخن محتوياتها تدريجياً، في حين يقوم سويليم بإجراء بعض التجهيزات الأخرى، ويتناول سويليم بعد ذلك، صُرَّةٌ متسخة، من مشكاة في الحائط القريب منه، وبعد أن يفك هذه الصرَّة يأخذ منها ثلاث حفنات أو أربع من البن غير المحمص، يضعها على صينية مصنوعة من الحشائش المجدولة، ثم ينقى البن من الحبوب السوداء، ومن المواد الأخرى الغريبة، التي عادة ما تختلط بحبوب البن عند شرائها بكميات كبيرة، وبعد تنظيف البن وغربلته، يصبه في مغرفة كبيرة من الحديد، يضعها بعد ذلك فوق فتحة المدخنة، ثم يبدأ النفخ بالمنفاخ وتحريك حبوب البن ببطئ إلى أن تطقطق، وتحمر، ويتصاعد منها قليل من الدخان، على أن يرفعها بعيداً عن النار والحرارة قبل أن تسودُّ أو تحترق، على الطريقة الخاطئة التي يصنعون بها البن في كل من تركيا وأوروبا؛ ثم يترك سويليم البن، بعد ذلك، يبرد قليلاً فوق ذلك الطبق المصنوع من الحشائش المجدولة، ويرفع سويليم "اللقمة" وبداخلها الماء الحار ليضعها فوق فتحة النار، لكي يبدأ الغليان في اللحظة المناسبة، ويسحب سويليم بعد ذلك، بين رجليه اللتين لا يغطيهما السروال، هاونًا كبيراً من الحجر، في وسطه فتحة ضيقة، تسمح بمرور يد الهاون، التي يبلغ طولها قدماً واحداً وسمكها حوالي بوصة ونصف البوصة، التي يمسك بها سويليم في يده، وبعد أن يصب حبوب البن المحمصة في الهاون، يبدأ في جرشها عن طريق دقها في فتحة الهاون الضيقة، باستعمال يد الهاون وبمهارة فائقة، تصيب ضرباته فتحة الهاون الضيقة ولا تخطئها، إلى أن يتم جرش الحبوب، بحيث لا تتحول الى مسحوق. ثم يُفْرِغْ سويليم الحبوب بعد جرشها، عن طريق الغَرْف، بعد أن تتحول إلى حبيبات خشنة يميل لونها إلى الاحمرار، وذلك على العكس تماماً من رماد الفحم النباتي الناعم، الذي يبيعونه في بعض البلدان على إنه بن مطحون، والذي يكون بلا أي رائحة بسبب الحرق أو الطحن، وبعد الانتهاء من هذه التجهيزات، التي ينجزها سويليم بحرص وامتياز كما لو كان رفاه الجوف كله يعتمد على هذه التجهيزات، يحضر دلة أصغر، يملأها إلى أكثر من نصفها بالماء الساخن الذي يأخذه من "اللقمة"، ثم يهز البن المطحون داخل الدلة الصغيرة ليخلطه بالماء، ويضعها على النار إلى أن تغلى، ويحركها من حين لآخر باستعمال عصا صغيرة كلما فار الماء، منعاً للطفح. ويجب ألا تشتد فترة الغليان أو تطول، وإنما يجب على العكس من ذلك، أن تكون قصيرة وطفيفة بقدر المستطاع، وأثناء غليان القهوة يتناول سويليم صُرَّة أخرى فيها حبوب لها رائحة مميزة تسمى الهيل. وهو منتج هندي، يؤسفني ألا أعرف اسمه العلمي، أو قليلاً من الزعفران، وبعد أن يجرش هذه المكونات، يلقيها على القهوة التي تفور حتى يُحسِّن من نكهتها، والسبب في ذلك أن هذه التوابل تعد مكوناً أساسياً من مكونات القهوة في الجزيرة العربية، برغم الاستغناء عنها في الشرق عموماً، في معظم الأحيان، ويحق لي أن أقول هنا إن السُّكّر، هنا شيء غير معروف كلية. ثم يقوم سويليم بعد ذلك، بتصفية المشروب من خلال قطعة من ليف النخيل توضع خصيصاً لهذا الغرض في بزبوز الدلة، ويقوم بعد ذلك بتجهيز الصينية المصنوعة من الحشائش وعليها فناجين القهوة الصغيرة استعدادا لصب القهوة، وهنا تكون كل هذه التجهيزات قد استغرقت ما يزيد قليلاً على نصف الساعة.
وفي غضون ذلك دخلنا في نقاش جاد مع مضيفنا وأصدقائه، غير أن سليمان، مرشدنا الشراري، شأ،ه شأن البدوي الحقيقي، يشعر بالحرج، عندما يكون بين الحضر، إلى حد لا يستطيع معه مجاراة أصحاب المراكز العالية، برغم توجيه الدعوة اليه مراراً، ولذلك آثر أن يجلس القرفصاء على الرمل بالقرب من مدخل القهوة، القهوة فيها الكثير من أقارب غافل ، وسيوفهم المزينة بالفضة تشير إلى أهمية العائلة، كما حضر معهم آخرون ليكونوا في استقبالنا نظراً لأن قدومنا، قد أعلنه بصورة مسبقة أولئك الخيالة الذين التقيناهم عند ممر الدخول، فضلاً عن أن وصولنا يعد حدثاً من أحداث المدينة؛ كانت ملابس البعض منهم توحي بالفقر، وملابس البعض الآخر توحي بالنعمة، ولكن الجميع يتصفون بالأدب واللياقة، ووجه لنا الحاضرون أسئلة كثيرة عن بلدنا والمدينة التي جئنا منها، بمعنى أنهم كانوا يسألوننا عن سوريا ودمشق، مما جعلنا نرتاح الى التنكر الذي كنا عليه، والذي كان من المهم أن نحافظ عليه تماماً؛ ثم بدأوا يسألوننا بعد ذلك عن رحلتنا، وعن تجارتنا، وما أحضرناه معنا، وعن أدويتنا وعن بضائعنا والملبوسات التي معنا وعن أشياء أخرى كثيرة، ومنذ الوهلة الأولى لاحظنا أن المشترين والمرضى سوف يتزايدون، وفيما يتعلق بي أنا نفسي فقد كنت لا أزال مهدوداً من الحمى الرجعية التي أصبت بها، وكنت لا أزال مرهقاً، ولمّحت لرفيقي بأن يتجنب موضوع الطب ويركز على الموضوع التجاري بقدر المستطاع، والمعروف أن القليل جداً من الرحالة، إن لم يكن أحداً على الإطلاق، يزورون الجوف في هذا الوقت من العام، والسبب في ذلك، أن من يزور الجوف في حر شهري يونيو ويوليو، لا بد أن يكون مجنوناً أو أوشك على الجنون؛ أما عن نفسي فقررت ألا أفعل ذلك ثانية، ومن ثم أصبح خطر المنافسة قليلاً جداً، وكانت السوق في إمرتنا تماماً.
ولكن قبل أن تمضي خمس عشرة دقيقة، وبينما كان سويلم يحمص البن أو يجرشه، حضر صبي طويل نحيف، شقيق غافل، وهو يحمل طبقاً كبيراً مستديراً، مصنوع من الحشائش المجدولة، مثل سائر الأطباق الأخرى، ثم وضعه بحركة رشيقة قريبا منا على الأرض المفروشة بالرمل، وأحضر بعد ذلك سلطانية كبيرة مصنوعة من الخشب ومملوءة بالتمر، الذي وضع في وسطه فنجان مليء بالزبد المنصهر؛ وبعد أن يضع كل ذلك على الطبق المدوّر، يقول: " سَمَّوا " ومعناها الحرفي " اذكروا اسم الله؛ بمعنى " كلوا مما هو أمامكم"، وهنا يتحرك رب المنزل من مكانه ليجلس على الرمل في مواجهتنا؛ ونقترب جميعاً من الطبق، ثم ينضم إلينا أربع أو خمس آخرون، بعد شيء من الخجل، ويتناول كل واحد تمرة أو اثنين من كتلة التمر كثيرة العصارة، ثم يغمسها في الزبد، ويستمر في الأكل إلى أن يأخذ بغيته من التمر، ثم ينهض واقفاً بعد ذلك ليغسل يديه.
وهنا تصبح القهوة جاهزة، ويبدأ سويليم، دورته ممسكاً بدلة القهوة في يد والصينية والفناجين في اليد الأخرى، ويشرب سويليم أول صبة من القهوة، مرعاة فيه لقواعد الإتيكيت، وذلك من باب التأكيد العلمي أن الدلة " خالية من السم"؛ ثم يقدم القهوة، بعد ذلك، للضيوف، مبتدئاً بأولئك الذين يجلسون بالقرب من (الوجار)؛ ويكون المضيف هو آخر من يأخذ القهوة، ورفض القهوة يعد إهانة لا تغتفر؛ ولكن يجب على المرء ألا يشرب القهوة دفعة واحدة، والسبب في ذلك أن حجم فنجان القهوة لا يزيد على حجم نصف قشرة البيضة في أفضل الأحوال، ولا يوضع فيه أكثر من نصفه، وصب القهوة على هذا النحو مظهر ضروري من مظاهر التربية السليمة واستعمال الكأس يكون معناه عكس المعنى المتعرف عليه في أوروبا؛ وأنا لا أعرف لذلك سبباً، وربما، باستثناء أن حاملات الفناجين، " الظروف" ( راجع الفصل الخامس من كتاب لين Lane المعنون المصريون المتحضرون) أشياء نادرة في الجزيرة العربية، برغم شيوعها في مصر وسوريا، قد تجعل الفنجان المملوء عن آخره ساخناً الى الحد الذي يصعب معه على الأصابع التي ستتناوله، أن تفعل ذلك بدون وسيط، وليكن ما يكون، وهناك حكمة تشيع، بين البدو والحضر، على حد سواء بل إنها تشيع في كل أنحاء شبه الجزيرة العربية تقول: " املأ لعدوك" . والقهوة بحد ذاتها، رائحتها طيبة ومنعشة، وهي منشط حقيقي، كما تختلف تماماً عن الطين الأسود الذي يمصه العثمانيون، وعن القهوة المائية التي يصنعونها في فرنسا من حبوب البن بعد غليها، والعبد أو الحر عندما يقدم فنجاناً من القهوة، يسبق ذلك التقديم بكلمة "سم" التي معناها "اذكر اسم الله"، ويجب ألا تتناول الفنجان إلا بعد أن ترد عليه قائلاً: "باسم الله".
وبعد أن يسير كل شيء على النحو الذي وصفناه، يجري صب القهوة للمرة الثانية، ولكن بترتيب معكوس، إذ يشرب المضيف أولاً في هذه المرة، في حين يشرب الضيوف بعده، وفي المناسبات الخاصة، التي من قبيل الاستقبال للمرة الأولى، على سبيل المثال، تقدم القهوة ثلاث مرات؛ وفي أحيان أخرى يقدم فنجاناً رابعاً. ولكن إذا جمعنا كل ما يقدم خلال هذه المرات الأربع، نجده لا يساوي ما يشربه الشخص الأوروبي في وجبة واحدة، هي وجبة الإفطار.
كان غافل يتمنى من كل قلبه أن نفتح الدكان والعيادة في منزله هو، وهذا له ما يبرره، إذ أن مخزون غافل المنزلي من البن قد أوشك على النفاذ، كما أسر إلينا، من خلال شعار الكرم والضيافة، أ،ه على استعداد لإبرام صفقة رابحة معنا يبتاع فيها منا كل كمية البن التي أحضرناها معنا، ولكن من ناحيتي أنا ورفيقي فقد كنا نتحين فرصة نخلو فيها إلى نفسينا سوياً، إذ كان لدينا الكثير الذي يجب أن نتشاور بشأنه، ونتحدث عنه سوياً؛ كما كانت طبيعة تلك الأمور تحتم أن تكون بيننا نحن الاثنين ولا تصل الى مسامع أصدقائنا، زد على ذلك أنني كان يتحتم على أن أدون يومياتي. ولكن منذ أن غادرت مُعان في اليوم السادس عشر من شهر يونيو وحتى يومنا هذا الموافق اليوم الثلاثين من شهر يونيو، لم تتهيأ لي بعد فرصة، أكون فيها بعيداً عن الملاحظة، أكتب تلك اليوميات وأنجز الأشياء الأخرى التي من ذلك القبيل، ولم نتمكن أيضاً، طوال حلولنا ضيوفاً على شخص آخر، من تهيئة تلك الفرصة التي نخلو فيها لأنفسنا حتى نتمكن من دراسة الأرض وسكانها دراسة صحيحة، وبناء على كل ذلك رفضنا عرض الرئيس الذي كرره مراراً، وأصررنا، منتحلين أعذاراً أخرى كثيرة، على أننا بحاجة الى مكان نسكن فيه لوحدنا، وأخيراً رضخ غافل لذلك المطلب، ووعد بأن ينزلنا في اليوم التالي منزلاً كبيراً ومناسباً، وقضينا بقية فترة المساء في الراحة، وقبيل غروب الشمس دعانا الى زيارة بساتينه في المساء مع نسمات المساء الباردة، وسوف أنتهز الفرصة هنا وأطوف بالقارئ عبر الجوف كله، نظراً لأن إلقاء نظرة عامة هنا تجعلنا نفهم جيداً ذلك الذي سأرويه فيما بعد، إضافة الى أنني أتخيل أن ما سأقدمه سيكون جديداً تماماً على عدد كبير من القراء.
الجوف ما هو إلا واحة من شكل معين، وهو منخفضٌ بيضوي كبير يصل طوله الى حوالي ستين أو سبعين ميلاً، وعرضه يصل الى حوالي عشرة أو اثني عشر ميلاً وهو ينحصر بين الصحراء الشمالية التي تفصل هذا المنخفض عن كل من سوريا ونهر الفرات، وصحراء النفوذ الصحراء الرملية الكبيرة، من ناحية الجنوب، وهو يتوسط المسافة بين النفوذ وأقرب جبال الهضبة العربية الوسطى، ثم يبدأ ارتفاعه ناحية جبل شومر، وعلى كل حال، فإن قرب الجوف النسبي من جبل شومر، وطبيعة مناخه ومنتجاته تجعله ينتمي الى كل من شمالي الجزيرة العربية ووسط الجزيرة العربية أيضاً، إذ أنه عبارة عن مدخل أو مجاز إلى وسط الجزيرة العربية، وإذا رسمنا مثلثا متساوي لساقين، بحيث تمتد قاعدته من دمشق إلى بغداد، فإن الجوف يشكل رأس هذا المثلث لأنه يقع في منتصف المسافة بين، الجنوب الشرقي والجنوب الغربي، قياساً من المنطقتين اللتين أشرنا اليهما، وإذا ما واصلنا الخط المتقاطع نفسه، فإنه سوف يعطي المسافة نفسها في الاتجاه العكسي، من ناحية المدينة Medinah ومن ناحية ولفة Zulphah، التي تعد المدخل التجاري الكبير لشرقي نجد، أما جبل شومر، فيقع ناحية الجنوب، وهو أقرب بكثير الى الجوف من المناطق التي أشرنا إليها. واسم الجوف (البطن) belly مأخوذ من موقعه المتوسط من ناحية، وشكله المقعر من الناحية الأخرى، وكلمة " أحشاء" المألوفة لدى طلبة أكسفورد، يمكن القياس عليها هنا، بل يمكن أن تحل محل الكلمة الإنجليزية belly التي تستخدم للدلالة على " الجوف".
والمدينة الرئيسية، أو بالأحرى المدينة الوحيدة في المنطقة، تحمل اسم المنطقة كلهان نظراً لأن بقية الضواحي عبارة عن كفور (هجر) وحسب، ومدينة الجوف تضم ثماني قرى، كانت متميزة عن بعضها البعض في يوم من الأيام، ولكن مع مرور الزمن تحولت كلها الى مدينة واحدة، ثم استبدلت تلك القرى وجودها المستقل واسمها المستقل باسم آخر هو السوق، أو " الحي" ليطلق على المنطقة كلها، وسوق عائلة حابوب، هو أكبر هذه الأسواق، وهو الذي نقيم فيه حالياً، ويحتوي هذا السوق على القلعة المركزية التي أتينا على ذكرها، ويصل عدد منازله الى حوالي أربعمائة منزل، أما الأحياء الأخرى، وبعضها كبير، والبعض الآخر صغير فهي تنتشر في أعلى الوادي وأسفله، ولكنها تتصل ببعضها عن طريق الحدائق الواسعة المترامية الأطراف، ويصل طول المدينة بشكلها الحالي، وبعد أن نضيف إليها المناطق المنزرعة حولها، إلى ما لا يقل عن أربعة أميال، ولكن متوسط عرض المدينة لا يزيد على نصف ميل، بل يقل عن ذلك في بعض المناطق.
وأحجام المنازل تتباين طبقاً لظروف سكانيها، ويرضى الفقراء بالمنازل الضيقة، برغم أنها تكون دوماً منعزلة عن بعضها؛ والسبب في ذلك أنني أشك، أن تقبل أي أسرتين، من أسر الجزيرة العربية، مهما كانتا فقيرتين، أن تعيشا في منزل واحد. وربما، يعطي منزل غافل الذي وصفناه، صورة عن النوع الجيد من المنازل: الذي يوجد فيه، عادة فناء خارجي، تنزل فيه الأحمال عن الجمال والأشياء التي من هذا القبيل، وفناء داخلي، وغرفة استقبال كبيرة، وعدة غرف صغيرة أخرى، يتم الدخول إليها عن طريق باب خاص، وتعيش فيها العائلة نفسها.
هناك سمة أخرى مميزة جداً للعمارة السكنِّية في الجوف، تنتشر في كل أنحاء الجوف وتتمثل في إضافة برج دائري، يتراوح ارتفاعه بين ثلارثين واربعين قدماً ويزيد عرضه على اثني عشر قدماً أو ما يزيد على ذلك، وله مدخل ضيق تعلوه فتحات للرمي. وفي بعض الأحيان، يُشيَّدُ هذا البرج بالقرب من مكان السكنى، وفي أحيان أخرى يقام منعزلاً في حديقة من الحدائق المجاورة يمتلكها صاحل المنزل، كانت تلك الأبراج في يوم من الأيام، تقوم بوظائف التورِّي Torri التي يعرفها كل من زار المدن الكبيرة في كل من إيطاليا، بولونيا، الصين، روما وأماكن أخرى كثيرة، والتي تدل على حالة اجتماعيةى مشابهة لتلك التي كانت سائدة في تلك المدن من قبل، في هذا المكان، وفي زمن تزايد الصراعات بين الرؤساء المتنافسين والطوائف، كان من دعاة القادة والمشايعين لهم أن يلجأوا الى هذا المكان طلباً للحماية والدفاع، ويرسلون منه أتباعهم للقيام بعمليات الحرق والتخريب، وهذه الأبراج، شأنها شأن بقية المباني في الجوف، مبنية من الطوب اللِّبن، وكبر سمك جدران هذه الأبراج وصلابة صنعها، وتماسك تربتها تماسكاً شديداً، إضافة الى المناخ الجاف جداً، كل هذه الأشياء هي التي تجعل هذه المادة تنافس نظيرها من الحجر، من حيث الصلابة وقوة التحمل. والواقع أن تلك الجدران العارية، إذا ما تركت لحالها بدون سقف أو صيانة سوف تتحدى ولقد شاهدت بنفسي- كل تقلبات أمطار الشتاء وعواصف الربيع العاتية على امتداد قرن كامل، فضلاً عن أن هذه الجدران لا تكشف مطلقاً عن عمرها الحقيقي، وبعد الاحتلال الأخير الذي قامت به قوات طلال بن الرشيد لهذه المنطقة، وسوف أتناول هذا الحادث بمزيد من التفصيل فيما بعد، قام بإتلاف هذه الأبراج، وبدون استثناء، وجعلها لا تصلح لاستعمالها في الأغراض الدفاعية، كما قام أيضاً بتخريب وتهديم بعض منها، وهكذا نجد الظواهر التي سادت في أوروبا تعيد نفسها في الجزيرة العربية.

ومنازل الجوف منعزلة بعضها عن بعض بواسطة البساتين والمزارع؛ وهذا هو أيضاً حال منازل الرؤساء وعائلاتهم، وما قلناه هنا عن الأبراج يوضح لنا الأسباب الداعية لانعزال المنازل بعضها عن بعض، غير أن المنازل العامة تكون مجاورة لبعضها، رغم أنها تفتقر الى التماثل والتناسق، زد على ذلك، أن الفراغات التي تتوفر لكل سوق من الأسواق والمخصصة لاجتماعات السكان العامة غير منتظمة الشكل أيضاً ولا تشبه تماماً، من حيث التخطيط الخارجي، كلاً من ميدان جرسفنور أو ميدان فندش، أو تشابه صفوف المنازل، مع منازل كل من شارعي ريجنت وأكسفورد.

وبساتين الجوف هي من أشهر الحدائق في الجزء الشرقي من الجزيرة العربية، وهي بحق كذلك، والحدائق هنا أوفر إنتاجاً وتنوعاً من حدائق جبل شومر أو أعالي بجد، كما أنها تفوق بكثير جداً حدائق الحجاز والمناطق المجاورة له، هنا في الجوف ولأول مرة في رحلتنا صوب الجنوب، وجدنا أن النخيل هدف رئيسي من أهداف الزراعة؛ وإذا كانت ثمار نخيل الجوف لا ترقى الى مستوى ثمار النخيل في كل من نجد والإحساء، فإنها أجود بكثير، بل بكثير جداً، من تمور كل من مصر وأفريقيا وتمور الى وادي نهر دجلة، الذي يمتد من بغداد الى البصرة، وعلى كل حال، فالنخلة لها وضع فريد هنا، وتجود في هذه البساتين أيضاً أشجار المشمش والخوخ وأشجار التين والعنب، زد على ذلك أن هذه الثمار تتفوق من حيث الوفرة والنكهة على مثيلاتها في بساتين دمشق، أو تلال سوريا وفلسطين، كما يزرع على نطاق واسع في المسافات، التي تفصل الأشجار عن بعضها أو في الحقول التي تقع الى الخلف منها، القمح، والبقول، والقرع، والثمار.. إلخ. وفي الجوف، أيضاً، وللمرة الأخيرة، يتأكد الرحالة المتجه صوب الجنوب، أن الري، في الجوف، هو أساس النمو والزراعة في ذلك المناخ الجاف، وذلك بفضل ينابيع المياه الجارية الصافية، وذلك على العكس من نجد وما جاورها، إذ يتعين الحصول على المياه، بعد مشقه، من الآبار أو من صهاريج يجري تخزينها فيها.

وليم بالجريف
الاثنين 23 فبراير 2009