كانت هذه الادارة حدّدت منذ بدياتها توجّهات بقي “تأمين إسرائيل” محوراً رئيسياً فيها، ومنه ينبثق التعامل مع التهديدات الإيرانية النووية والصاروخية كمحور موازٍ. أما في ما يتعلّق بالعرب فمن الواضح أن التركيز الأميركي ينصبّ على “السلام” بينهم وبين إسرائيل، من دون أن تكون هناك أي مساهمة أميركية فاعلة في سلام فلسطيني – إسرائيلي. ومع أن تلك التوجّهات سلّطت الضوء على إنهاء الحرب في ليبيا أو في اليمن (من دون الإشارة الى دور إيران وخطره على دول الخليج)، إلا أنها لم تبدُ معنية بإنهاء حرب سوريا (بذريعة أن الإخفاق هناك روسي أولاً وأخيراً) ولا بالأوضاع الخطيرة في العراق ولبنان حيث تواصل طهران سياساتها التخريبية من دون أي مساءلة دولية أو إقليمية.
على رغم أن ممارسات إسرائيل، كدولة احتلال ودولة تمييز عنصري ممأسس، تتناقض بوقاحة فظّة مع “تعزيز وضع حقوق الانسان” كأحد المبادئ التي تتمسّك بها إدارة بايدن، إلا أن الاستثناء الإسرائيلي يكذّب أي مبدئية ويغطي على الجرائم (ومنها أخيراً قتل شيرين أبو عاقلة)، حتى أنه شمل أيضاً قبول انحياز اسرائيل الى جانب روسيا واستمرار مصالحها مع الصين من دون شروط معلنة. وفي المقابل، يُنظر بانتقادٍ واستهجان الى المواقف العربية “المحايدة” حيال النزاع الاوكراني، لا لشيء إلا لاعتبار أن الاصطفاف العربي وراء الموقف الأميركي يجب أن يكون من البديهيات المحسومة، وهو لم يعد كذلك. وإذ اعترفت واشنطن بمصلحة إسرائيل في الإبقاء على علاقة جيدة مع فلاديمير بوتين، فإنه صعُب عليها أن تسلّم بالمصلحة نفسها للعرب، أي أن واشنطن أرادت الانكفاء عن المنطقة وتوقّعت أن ترضخ أطرافها للأمر الواقع فلا تسعى الى إيجاد بدائل عند روسيا والصين.
ملأ الإسرائيليون فضاء التسريبات بسيل من الأفكار والمشاريع والتمنيات التي نسبوها الى زيارة بايدن ووضعوها في إطار ارتباطه المتفاني بإسرائيل كـ “صهيوني غير يهودي” كما يصف نفسه. وقد كثّف المحللون في الآونة الأخيرة التأكيد بأن تعزيز وضع نفتالي بينيت وضمان عدم سقوط “ائتلافه الحكومي” (قبل الانتخابات النصفية الأميركية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل) من أهم دوافع الزيارة، استبعاداً لاحتمال عودة بنيامين نتانياهو الذي ذهب بعيداً في الالتصاق بالجمهوريين ولا سيما بدونالد ترامب. قالوا إنها من المرّات القليلة التي تتداخل فيها السياستان الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة، ولمراعاة “اللوبي اليهودي” وحساسيات “ائتلاف” بينيت فإن بايدن جمّد قراره بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وتعهّد عدم انتقاد التوسّع في الاستيطان وعدم الضغط علناً في قضايا التسوية مع الفلسطينيين. لذلك يتساءل مسؤولون في رام الله عن جدوى لقاء بايدن – محمود عباس، ويتوقّعون أن يكون هدفه فقط الحفاظ على “التهدئة” من أجل بينيت الذي لا يعترف بأي “تهدئة”، لا هو ولا مستوطنوه، لا في المسجد الأقصى ولا في مواصلة التهجير وسرقة الأراضي من الضفة الغربية.
لكن ما أدلى به وزيرا الخارجية والدفاع الاسرائيليان تجاوز التسريبات، إذ أكّد كلٌّ منهما بطريقته أن بايدن يحمل أو “يجب أن يحمل” مشروعاً يحشد للتعاون الاقليمي في مواجهة التهديد النووي الإيراني. صاغ بيني غانتس الفكرة عسكرياً في “بناء قوة إقليمية مشتركة، بقيادة الولايات المتحدة، لمواجهة إيران”، وقدّمها يائير لبيد تحت عنوان “التطبيع” مشيراً الى انطلاق مباشر متوقّع لطائرة بايدن من إسرائيل الى جدّة (كان ترامب انتقل مباشرة من الرياض الى القدس عام 2017). لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل أن بايدن مستعد فعلاً للانخراط في ما يمكن أن يسمّى “مواجهة مع إيران” بمفهومها الإسرائيلي، أو على الأقل بالمفهوم الذي يقترحه البنتاغون؟
هذا ما تتطلع دول المنطقة الى معرفته، شكلاً ومضموناً، وإذا تأكّد فعلاً فإنه يعني أولاً خروجاً مفترضاً لبايدن من خطّ أوباما المهادن لإيران والثابت في عدائه للخليج، وقد يعني ثانياً تجاوزاً لخط ترامب الذي وضع محددات المواجهة مع إيران ولم يستكملها. كثيرون في الإدارة وخارجها يعتبرون أن الرئيسين السابقين سجّلا إخفاقات مع إيران سواء في التقارب معها (أوباما/ اتفاق 2015) أو في مواجهتها (انسحاب ترامب من الاتفاق ومعاودة فرض العقوبات)، وبالتالي فإنهم لا يرون أن خيارات بايدن والبنتاغون باتت متطابقة، لكن يُفترض أن تكون ادارته سجّلت من جهة أن إحياء اتفاق 2015 كما تصوّرته قبل عامين فَقَد زخمه والأهداف المؤملة منه، ومن جهة أخرى أن إيران قد تكون وجدت في حرب أوكرانيا فرصاً لم تكن متاحة سابقاً للمضي قدماً نحو الحصول على سلاحها النووي.
في كل الأحوال، وجد بايدن نفسه إزاء إخفاق كان متوقعاً مع إيران على رغم ما عرضه من تنازلات، لكن اهتزاز العلاقة مع دول الخليج، وبالأخص السعودية والامارات، كان اخفاقاً يتحمّل هو القدر الأكبر من مسؤوليته. وقبل أن يلتقي قادة مجلس التعاون الخليجي، الشهر المقبل في جدة، أصبح واضحاً لديه أن العلاقة بين أميركا ودول المنطقة لم تكن يوماً على هذا القدر من انعدام الثقة، ليس فقط على مستوى الحكومات، بل أيضاً لدى الرأي العام. لا يمكن الرئيس الاميركي أن يستعيد الثقة من دون التزامات واضحة وموثقة، ولا يمكن أن يكون هناك تعاون إقليمي، بقيادة أميركية ووفقاً لخطط البنتاغون، ما لم يكن أمن الخليج والمنطقة العربية محوراً أساسياً معترفاً به وليس بنداً ملحقاً بأمن إسرائيل، أو ورقة مساومة بين واشنطن وطهران.
 ---------
  النهار العربي