نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

( في نقد السّياسة )

05/05/2024 - عبد الاله بلقزيز*

أردوغان.. هل سيسقطه الإسلاميون؟

03/05/2024 - إسماعيل ياشا

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي


حمص الطروادية: بين الساروت والغليون




في السادس من أيار /مايو 2011، كانت مدينة حمص تتصدّر سجلّ الشرف في أعداد شهداء الإنتفاضة السورية (قرابة 1500 شهيد)، بعد أقلّ من شهرين على انطلاق أولى تظاهرات الإحتجاج السلمية. ويومذاك، كان الحماصنة في طليعة المتظاهرين الذين بدّلوا شعارات الإنتفاضة الأبكر، فانتقلوا إلى الشعار الحاسم المطالب بإسقاط النظام؛ كما كانوا بين أوائل أبناء المحافظات في تغيير اسم أهمّ معالم المدينة، ساحة الساعة، إلى ‘ساحة الحرّية’. وهنا، في حمص، شهدت الإنتفاضة أوسع اصطفاف ضدّ النظام من جانب الطبقة الوسطى، وبعض التجار الكبار، وشرائح من المنضوين في ‘الأغلبية الصامتة’ عموماً.


 
ذلك جعل كتائب الفرقة الرابعة ـ بمؤازرة واسعة من مختلف الأجهزة الأمنية، وقطعان الشبيحة، فضلاً عن أزلام النظام وأعوانه داخل المدينة ـ تنفّذ سلسلة من العمليات العسكرية والأمنية ضدّ حمص، تظلّ بين الأشرس والأشدّ وحشية وهمجية. ولقد استُخدمت صنوف الأسلحة كافة، بما في ذلك الحوّامات والطيران الحربي؛ وفُرض حصار على أحياء حمص وجوارها، من الرستن إلى تلبيسة إلى تل كلخ، ظلّ مفتوحاً حتى اليوم، حين يتعالى حديث النظام عن ‘دخول’ قوّاته إلى قلب المدينة القديم. وكان طبيعياً أن يقترن هذا كلّه بحملة من طراز آخر، قوامها افتعال بؤر احتكاك طائفي بين أبناء المدينة، شاركت في تنفيذ سيناريوهاتها أجهزة النظام ذاتها، قبل أن تتولى تضخيمها إلى ما يشبه السردية المتكاملة: حمص، ‘قلعة الثورة السورية’ كما في التسمية اللائقة بها تماماً، صارت حاضنة أولى لاحتمالات حرب طائفية!
لم يكن ذلك التكتيك، الخبيث والمبتذل في آن، مفاجئاً إذْ يصدر عن النظام؛ ولكن كان المفاجىء، والمحزن تماماً، أن يقع في أحابيل تلك السردية بعض مناصري الإنتفاضة أنفسهم، ممّن اكتفوا بالحملقة في التفصيل الصغير العابر، فزاغ بصرهم عن المشهد الكبير الأهمّ. لافت، أيضاً، أنّ بعض أبناء حمص أنفسهم، وعلى رأسهم برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري آنذاك، جرفتهم الموجة إياها، فأصدر الأخير بياناً، بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن مجلسه؛ طغت اللغة الإنشائية على كلّ فقراته، ما عدا تلك التي تُلقي باللائمة على الحماصنة، وتجزم بأنّ ‘دفاعات’ بعضهم قد ضعفت في ‘مواجهة مخاطر الإنقسام والتصادم الطائفي’، بحيث: ‘أصبحنا نشهد منذ أسابيع عمليات خطف واغتيال وتصفية حسابات بين أبناء الشعب الواحد، بل بين أبناء الثورة أنفسهم’!
ولأنّ النصّ قوبل بردود فعل رافضة، ومستنكرة، فقد سارع المجلس إلى إصدار بيان ثانٍ حول حمص، أراد فيه أن يكحّل بيان رئيسه، فألحق به العمى عملياً؛ إذْ ليس المطلوب تنزيه المدينة عن كلّ فعل طائفي، كما اعتبر البيان؛ ولا تأثيمها على نحو تهويلي يعيد إنتاج سردية النظام، بحسب بيان غليون. تلك كانت مسألة سياسية بامتياز، قبل أن تكون ظاهرة فوات اجتماعي، ولم يكن من الحكمة أن يتخبط المجلس الوطني بين أقصى التنزيه وأقصى التهويل. لا أحد كان، ويظلّ، يدفع إلى التجييش الطائفي مثل النظام، من قمّة مؤسسته الحاكمة الأضيق وحتى أوسع قواعده الموالية؛ ولهذا، لا حرب ناجعة ضدّ الميول الطائفية أكثر من تلك التي تُشنّ ضدّ النظام، أوّلاً وثانياً وعاشراً.
وفي السادس من أيار، ذاك، كانت حمص عاصمة الانتفاضة السورية، ‘العدية’ كما يصفها أهلها، والقلعة الحصينة التي صمدت طيلة أشهر ضدّ غزاة النظام؛ وهكذا تبقى اليوم أيضاً، وربما حتى ساعة سقوط النظام. وكان من المهين لأبنائها، ولسجلّها العريق الذي يغطّي معظم التاريخ السوري القديم والوسيط والحديث والمعاصر، أن تُختزل إلى صورة مصغّرة، تصنعها حوادث طائفية متفرقة، وأن تُطمس صورتها الأخرى الأبهى: أنها طروادية في مقاومة الحصار، بل هي طروادة سورية الراهنة. وبعض وقائعها الطروادية سجّلها شريط طلال ديركي البديع ‘العودة إلى حمص’، الذي عرّف العالم على تقاليد فريدة في الصمود الإنساني والأخلاقي والسياسي والعسكري؛ في مدينة فريدة، وعبر نموذج بطولي فريد (عبد الباسط الساروت، دينامو التظاهرات الأنشط، أحد ألدّ خصوم النظام، ومخلّد الأهزوجة الجميلة: ‘جنّة جنّة جنّة! جنّة يا وطنّا’…)، استحقّ مكانته المشروعة في حوليات المقاومة، الأنبل والأرفع، على مدار التاريخ.
وبين نموذج الساروت ونمط الغليون (ومَنْ جاء بعد الأخير لم يكن أفضل، للإنصاف، بل أشبه به أو أردأ أو أسوأ، في المجلس كما في الائتلاف!)، تعاقبت على حمص وقائع ملحمية شتى، متشابكة ومعقدة، متكاملة أو متنابذة، تمزج بين الآلام والآمال تارة، أو بين العرس والجنازة طوراً. لكن واحدة من خصالها الكبرى لم تكفّ يوماً عن التنامي والتصاعد والرسوخ: أنها طروادية بامتياز، على غرار الأمثولة العالية التي تغنى بها أمثال هوميروس، فرجيل، شوسر، شكسبير، راسين، غوته، و. ب. ييتس، هيلدا دوليتل، أوسيب ماندلشتام ومحمود درويش؛ والتي حفظها التاريخ لصالح حقّ المقاوم في الانتصار، وإجبار القاهر على الانكسار.
------------------
القدس العربي

صبحي حديدي
الاثنين 5 ماي 2014